سنية عبد عون رشو - أستاذي الدكتور عمر الطالب..

تطفح ذكراه وتمحق النسيان. صاحب عقيدة عتيدة لا تلين جعلت منه شخصية قريبة من قلوب طلبته. أتذكره مهما تقادمت السنون.

التقيته في محطة القطار في بغداد حاملا حقيبته. صعدنا القطار المتجه نحو محافظة نينوى.كنت وزميلاتي نركب القطار لأول مرة، فقد تملكتنا الدهشة والفرحة الصبيانية، وكانت المرة الأولى التي نهجر فيها مدينتنا المسيب ونهر الفرات.

بدا لنا صامتا. يقتل وقته بالقراءة.كان مقعده أمامنا مباشرة. قدمنا له بعضا من حلوى التمر. تساءل عن اسمها، قلنا إنها (المدگوگة) ضحك بكياسة وتعجب.ثم أخرج قلما ودون اسمها في كتابه.

لم نكن نعلم انه سيكون أستاذنا في درس النقد في المرحلة الثالثة؛ بل لم نكن نعلم انه أستاذ يدرس في جامعة الموصل حيث وجهتنا. فهو من تبرع بحمل حقائبنا الثقيلة ورفعها إلى المقصورة المخصصة لها قبل تحرك القطار.

حظيت باغترافي من منابع ثقافته وعلمه في المرحلتين الثالثة والرابعة في كلية الآداب في نهاية السبعينيات. ترسخ خلالهما تعلقي وحبي للأدب العربي حديثه وقديمه.كان يحثنا على الإطلاع على الآداب الأخرى ويحذر من ظاهرة الانغلاق الفكري وذلك بتوجيه اهتمامنا بالأدب الغربي مع الحرص والعناية باللغة إلام وبالتراث الأدبي والفكري العربي أيضا.

كان نموذجا للحرص بتوجيه طلابه للقضايا الثقافية والأدبية وتلميحات في غاية الدقة والحذر في الأمور السياسية. كانت المراقبة حوله مكثفة. وكنا نعرف ذلك؛ فهو بمثابة الأب الروحي لأكثر الطلبة. يؤمن بمبادئه ويطبقها، ولم يتملق لفئة معينة.

في إحدى محاضراته تعرض له أحد الطلبة وأسمعه تهديدا مبطنا بعد ان وبخه الأستاذ لإهماله في تنفيذ واجب دراسي -وكان ذلك الزميل حزبيا ومسؤولا في منظمة السلطة والاتحاد الوطني- نظر إليه الدكتور عمر برهة، ثم أجابه بهدوء وبلهجة أهل الموصل المحببة: دَحِّقْ: أنا عمر الطالب أكبر شارب كن سحقتونو. وبرغم الإساءة التي وجهت لهذا الطالب؛ كانت قلوبنا مع أستاذنا.

لم يمتلك سيارة خاصة طيلة المدة التي قضيتها قي كلية الآداب قي جامعة الموصل. كان يركب معنا في الباص الحكومي العام. وحين نسأله يقول: ما الفرق بيني وبينكم؟

ثقافته كأنها أمواج بحر زاخرة ومتجددة في كل حين. حين يقرأ نصا شعريا يمنحه جزءا من روحه ومشاعره. نبرات صوته تنبئ بعشقه للشعر والموسيقى. يثير إعجابنا عند تحليله ونقده في الأدب العربي. وحتى في الأمور الحياتية الأخرى. يعشق صوت فيروز دون سواه.

في مقارنة له بين شعر جميل بثينة وشعر عمر بن أبي ربيعة. وكما هو معروف اشتهر جميل بحبه العذري لواحدة من النساء؛ بينما تغزل أبن أبي ربيعة بنساء كثيرات. وقد أسهب الدكتور الطالب في الحديث عن الظروف الاجتماعية لكل من بني عذرة والترف الذي كانت عليه أسرة أبن أبي ربيعة المخزومي. فسأله أحد الطلبة: ولماذا كانت النساء تغرم به؟ فأجابه من باب الطرفة: كان وسيما جدا (هكذ مثلي).

طلب منا نقدا أدبيا لفيلم "زينب" لمحمد حسين هيكل الذي عرض في قاعة الجامعة.كل طالب حسب رؤيته وأسلوبه الخاص. وقد حصلت على المرتبة الأولى؛ فعلق مازحا: المرأة الصامتة هي صاحبة الحظ الأوفر بينكم -وكنت مقلة في الاشتراك في الحوارات والمناقشات لغلبة صفة الخجل لدي بسبب بيئتي المحافظة- فضحك الجميع بسبب ملاحظته؛ فغضبت منه وقلت: ليس عيبا يزري بصاحبه أن يكون المرء خجولا!. فقال: أشقد عجبني ردك يا بنت، بقي أنت ما خجولة هساعته، ما تمام؟ ببراءتك ناقضت نفسك. ما تمام؟. وكان يكثر من استعمال اللهجة الموصلية حين يخرج عن الدرس الى التفكه والتبسيط مع طلابه.

يقصد إني فاجأته بشجاعتي؛ وهو نوع من أنواع التشجيع المبطن لكي أستمر باكتساب الشجاعة والدفاع عن أفكاري وان كانت بمواجهة أستاذي. حينها لم أفطن إلى نبل هذا الرجل الكبير. ومرت أعوام لكي أتعلم كيف أشجع طالباتي دون أن أشعرهن بمنة تعليمي إياهن وتلك سجية اكتسبتها من الدكتور عمر الطالب وأساتذة آخرين.

له موسوعة فخمة عن كتاب القصة في العراق منذ بدايات القرن العشرين وحتى ساعة إنجازه الكتاب. وكانت دروسه في النقد في المرحلة الثالثة في كلية الآداب تحفل بالحوارات الجادة والحيوية والحماس، وكذلك دروسه في الأدب الحديث في المرحلة الرابعة أيضا. ومن بين اهتماماته كتابة القصة القصيرة التي حببها لنا، وله فيها كتابات بديعة.

لست بصدد الحديث عن تراثه الأدبي والفكري وشخصيته كمدرس وأكاديمي؛ بل هي تحية وفاء لذكراه، فقد عاش شامخا أبيّ النفس، ومات غنيا بمنجزه وخدمته لشعبه وطلبته، فقيرا بما تركه من حطام الدنيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى