أسماء القطيبية - ذاكرة الأمكنة...

تشكل الأمكنة جزءا لا يتجزأ من الوجود، فكل شيء له مكان، وكل مكان له معالم. ولأنّ طبيعة الإنسان تميل إلى الفضول حول الماضي، فقد تتبع الإنسان آثار أسلافه من خلال الطريقة الوحيدة في التواصل معهم ألا وهي آثارهم المتمثلة في البيوت والقصور والقلاع وغيرها، ومن خلالها استطاع أن يتعرّف على أجداده وأنماط معيشتهم فأشبع فضوله واستفاد من خبراتهم. وتقديرًا لهذا المعروف الكبير الذي قدمته له تلك الخرائب فقد حرص على تكريمها بالمحافظة عليها وترميمها.

وعن دلالات الأمكنة يقول ميشيل فوكو: "لا يمكننا فهم الأمكنة باستقلال عن ممارسة الإنسان"، فالأمكنه تدل على أصحابها ونمط معيشتهم، كما تدل على أمزجة قاطنيها وعلاقاتهم وأهوائهم. ففي القرية مثلا تصطف البيوت بجانب بعضها البعض بطريقة عشوائية وكيفما اتفق. تتراص البيوت إلى درجة أنّ كثيرًا منها لا يفصلها سوى جدار واحد، جدار يتقاسمه الجاران كما يتقاسمان وجبات الطعام ولُعبِ الأطفال. كما أنّه من المألوف في القرية أن يكون للبيت بابان، باب أمامي في واجهته، وباب من الخلف لتسهيل الوصول إلى الجيران الأبعد. البيوت في القرية تحب بعضها البعض كما يفعل الناس هناك، تستند الجدران المتهالكة على بعضها لتقاوم تعب شيخوختها كما يستند الشيوخ على عصيهم في مجالس القرية. ولا تجد البيوت في القرية أي غضاضة من هذا التقارب بعكس البيوت في المدن. تلك البيوت التي تحاول الابتعاد عن بعضها البعض ما أمكن، وتجاهد لتثبت وجودها بطول جدرانها وإتساع حدائقها البالغة الترتيب. إنها تتحاشى بعضها البعض، وفي أحسن الأحوال تتعارف بسطحيّة كما يفعل الناس هناك. ولعلّ ذلك عائد إلى طبيعة المدينة ككل. إلى الزمن الذي يجري سريعًا نحو الساعة الأخيرة من اليوم، إلى كثرة الوجوه وتبدلها، وإلى التوتر الذي توحي به إزدحام الطرق والأبنية. يضيف حسين البرغوثي في "الفراغ الذي رأى التفاصيل" سببا آخر لبرود العلاقة بين بيوت المدينة حين يقول: "إنّ الفيلا لا تستعرض قرميدًا أحمر أو شبابيك أو رخاما، بل فكرة المال ككم محض.. وبمقدار ما كلفته تتحول إلى مجرد تشبيه شعري يعبّر عن الكم الذي يطمس النوع.. إذ أنّ نوعية الفيلا مجرد حجة أو أداة أو ظل للكمية المالية"، فتحول المنازل إلى مجرد واجهة استعراضية يفقدها منظر الألفة المفترض، ويجعل من وجودها الأنيق وجودا باهتا غير مريح.

أمّا في المدن التي تتوسع عموديا بعد أن ضاقت بما رحبت من المساحات فيتجمّع الناس في عمارات شاهقة يتفوق فيها التقارب المكاني على ذلك التقارب بين بيوت القرية. ولكنهم على النقيض من أهالي القرى أكثر ابتعادا وأقل تواصلا مع بعضهم البعض. بل إنّه لا يكاد يمر يوم دون أن يشتكي أحدهم من إزعاج جيرانه أو تصرفاتهم. وأظن أن ذلك عائد إلى شعور فقد الخصوصية الذي يوحيه المكان، فسكانه يشعرون بالتهديد الدائم من تعدي الآخرين على مساحتهم الضيقة أصلا، وهم الذين تعودوا على البيوت الواسعة التي تتنفس الهواء النقي طوال الوقت. إنّ المكان في هذه المجمعات يقسم نفسه بين ما هو لك وما هو لغيرك، ولا تتجاوز المساحة المشتركة التي يتيحها بين سكانه سلالم العمارة أو مصاعدها. وعليه فإنّ الشقق والغرف في هذه المجمّعات رغم تشابه تصميمها إلا أنّها تحمل أمزجة أصحابها الآتين من شتى القرى، مزاجا متقلبا لا يمكن التنبؤ به.

في القرية والمدينة على السواء تملك المساكن ذاكرة قوية، ذاكرة بعمر أصحابها وتفاصيل معيشتهم، وبين هذه المساكن يحدث أن تتدخل أماكن أخرى لتحتل مكانا في الذاكرة، فالسجن مثلا مكان لا يمكن نسيانه، قصرت فيه مدة الإقامة أم طالت، ويعني الدخول إليه والخروج منه فواصل مهمة في حياة الإنسان. كما أن غرف الفنادق هي الأخرى أمكنة لا غنى للإنسان عنها، وما يميزها عن غيرها من الأماكن أنها تملك ذاكرة قصيرة، فهي تنسى أصحابها بمجرد تخطيهم عتبة الباب، وينسونها هم كذلك، وعن سبب حبها لغرف الفنادق تجيب غادة السمان: "لأنها مكان بلا ماض، لا تعذبنا فيها فلول "النوستالجيا" وجند الذكريات، غرف الفنادق منطقة حرة بين الطعنة والطعنة".

علاقتنا مع الأمكنة معقدة وعصية الفهم. ولابد أن لكل منا أمكنة مميزة، تكتسب ميزتها بالشعور الذي يوحيه التواجد فيها أو تذكرها، فهي الأطلال التي تهيج الذكرى لدى من فقدوا أحبابهم، وهي مكان المحبوبة لدى الشاعر العربي الذي يقول (كل بلاد قربت منك منزلي.. وكل مكان أنت فيه مكاني)، وهي لدى أغلبنا بيت الطفولة الأول، ذلك الذي قضينا فيه أجمل سنوات العمر، وشهدت جدرانه ومزروعاته تقدمنا في العمر، فمهما تنقلنا من مساكن يبقى البيت الأول هو الأجمل والأفضل والأكثر أمانا، ولعل ذلك الحنين الجارف هو الذي الذي يجعل من أحلامنا دائمًا تدور في ذلك البيت دون غيره من الأماكن.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى