أمل الفاران - بنت

أنا ميتة. الموت ليس فكرة سيئة في حالتي. لم يبك علي أحد؛ لأن أحدا لم يعرفني. لم تفكر أمي في اسم لي لا مثيل له في محيط قطره ثلاثة أحياء سكنية وأربعة بيوت في مدن بعيدة قد تعود منها شقيقاتها في زيارات خاطفة للبلدة. لم تتخاصم مع أبي حول اسمي، فقد طلقها قبل خمسة عشر عاما.
ولأني لم أولد أبدا لم يؤذن جدي في أذني، ولم تقطع سري ممرضة، لم أخرج للنور، ولم أتخلّق مضغة في رحم أمي.
لم يضعني شقيقي – رضيعة – في حجره، ولم ترفرف أيادي أمي حوله حتى لا يوقعني. لم يركبني خلفه في دراجته ذات العجلات الثلاث، ولم أتشبث خائفة بعموده الفقري، ولم يتمايل رأسه زهوا وهو يستعرض قدرته على القيادة بحمولة إضافية أمام أمنا.
لن يبكي أحد، لكن قلب أمي يغوص في بركة داكنة أحيانا حين أظهر في أحد أحلامها: آتيها طفلة في أعمار بين السنة والأربع، وأستقر دائما على ساعدها: رأسي يلامس عنقها، قلبي الصغير ينبض فوق صدرها، وكفي على لوح كتفها.
ظلت أمي تسأل العارفات عن معنى الحلم المتكرر بي. قبل أحد عشر عاما قالت جارتها العجوز : ” البنت في الحلم بنيان ” فبذرت في رأس أمي فكرة. لم تحصل أمي على بيت يخصها وحدها، لكنها تنقلت بين مساكن زرتها فيها جميعا.
قبل تسعة أعوام قال شيخ لجدتي حين سألته تفسير الحلم: البنت خير ورزق.
فرحت جدتي التي لا أعرف رائحة جسدها ولم أذق مرةً الحلوى التي توزعها على الصغار، بشّرت أمي وتبادلتا ابتسامة متشككة قبل أن تلوكا معا : “الله يكتب الخير ”
تحت رماد يأس جدتي استيقظ رجاؤها وقالت صادقة أو تكذب: الشيخ قال إن الرزق قد يكون زوجا وعيالا، وقد عادت الخطابة تسأل..
نهضت أمي وركضت أنا في إثرها. لم نسمع بقية الكلام، وإن تسربت حوقلات الجدة من تحت باب حجرتنا.
قبل سبع سنوات ألمحت أمي لصديقاتها أنها قد تتبنى فتاة صغيرة وجننتني الغيرة. غضبت وصرت أزور مناماتها كل أسبوع مرتين، حتى ذوت الفكرة في لسانها.
قبل خمس سنوات سافرت أمي إلى بلد بعيد، ولم أصاحبها.
حين عادت زرتها وقد أنهكني الشوق. وجهي مسفوع مشعر، جسدي رخو مترهل، ودقات قلبي غير منتظمة.
أخافها منظري فكتمت تفاصيل حلمها تلك المرة، ورمت شبحي في صندوق الأوجاع غير المحكية.
اليوم أكمل ثلاثة أعوام مذ امتنعت عن زيارتها. لم يعد ذلك مجديا على كل حال وقد جف رحمها.


٦ ديسمبر ٢٠١٧

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى