محمود الورداني - ‬عندما رأي إبراهيم عبد المجيد الأسد

قال لي‮ ‬إبراهيم عبد المجيد في أحد الأيام‮ ‬،إنه فتح البلكونة في الفجر فوجد أسدا‮ ‬ينظر إليه‮ ‬غاضبا،فقلت له بكل هدوء وأنا أكثر جدية منه‮ ‬،ربما لأغيظه‮ :‬وعملت إيه ؟ فأجابني أنه أغلق البلكونة بسرعة لأن الأسد فيما‮ ‬يبدو كان‮ ‬يريد الدخول‮.‬
‮ ‬حدث ذلك في أوائل ثمانينيات القرن الماضي‮ ‬،عندما كان‮ ‬يسكن في أرض الجمعية في‮ ‬إمبابة‮ ‬،وأنا بعده في وراق العرب التل‮ ‬،تفصل بيننا مسافة‮ ‬يقطعها الميكروباص في وقت قصير مقابل ثلاثة قروش.كان ابراهيم معتادا علي ترديد حكايات حدثت له مثل حكاية الأسد‮ ‬،وكان الحل هو أن أظهر له أنني أصدقه،والحقيقة أنني كنت أستمتع بشدة بتلك الحكايات‮ .‬
‮ ‬تذكرت هذا وأنا أقرا أخيرا واحدا من أجمل كتب‮ ‬إبراهيم‮ ‬،بل واحدا من أجمل كتب سيرة الكتابة وأغوارها ومساربها وكيف تتشكل‮ ‬،وهو‮ "‬ماوراء الكتابة‮"- ‬الدار المصرية اللبنانية‮ ‬،والذي تأخرت في قراءته نحو عامين،والكتاب مثل روايات إبراهيم وقصصه وحكاياته مفعم بالفوضي والغموض وانعدام المنطق الصوري الواقعي‮ .‬
‮ ‬هناك دائما في أعمال‮ ‬إبراهيم أشياء‮ ‬غامضة تحدث‮ :‬جرائم وناس‮ ‬يطيرون في الهواء‮ ‬،وأسود تتجول في الشوارع،خوارق وصواعق وزلازل وبراكين‮ ‬،لكن المهم في كل الأحوال أنها تحدث فعلا‮ ‬،ولابراهيم طريقته ليقتنع القارئ أن مايورده في الرواية حدث فعلا‮ ‬،ليس علي المستوي الرمزي مثلا‮ ‬،مطلقا‮ ‬،بل هي وقائع حدثت فعلا في الرواية ولاتدعو للعجب أو للتردد لحظة في قبول المنطق الفني الذي‮ ‬يفرضه العمل مثل حكاية الأسد الذي كان‮ ‬يقف‮ ‬غاضبا في البلكونة‮.‬
‮ ‬وفي‮ "‬ماوراء الكتابة‮ "‬،‮ ‬يسعي إبراهيم بدأب ورهافة لتقليب وحفر وإعادة اكتشاف مايقرب من أربعين عاما من الكتابة المتواصلة الهادرة‮ .‬واللافت للنظر أن كتابة ابراهيم هي حياته وصبواته وأحلامه وانكساراته‮ ‬،هي الاسكندرية التي لم‮ ‬يعرفها ويعشقها ويصرخ من أجل ما انحدرت إليه كاتب مثله‮.‬
‮ ‬كيف‮ ‬يتشكل العمل‮ ‬،بداياته الجنينية‮ ‬،وكيف‮ ‬يجد الكاتب نفسه‮ ‬يبتعد عنه‮ ‬،ربما ليكتب عملا آخر لم‮ ‬يكن‮ ‬يلوح في الأفق،ثم كيف‮ ‬يعود إلي العمل الذي تركه‮ .‬في كل هذا‮ ‬يحكي ابراهيم نفسه‮ ‬،ألمه،لا انفصال عنده بين الحياة والكتابة‮ ‬،ومهما جري من عجائب وغرائب مجنونة ونزقة ومنفلتة لاتأبه ولاتهتم إلا بمنطقها الذي‮ ‬يخلص له ابراهيم‮ .‬
‮ ‬أما عالم ابراهيم الفني فهو عالم مترام واسع لاينتهي‮ ‬،ليست الاسكندرية وحدها هي مايشغل ابراهيم وسيظل‮ ‬يشغله‮ ‬،هناك‮ ‬إسكندرية أخري‮ ‬يبحث عنها ابراهيم ويرثيها ويبكي من أجلها‮ ‬،ويلعن من باعوها ومن اشتروها ومن شوهوها واستبدلوها‮ ..‬أقول ليست الإسكندرية وحدها‮ ‬،فعالم ابراهيم مترامي‮ ..‬راجع مثلا أعماله المبكرة الفاتنة مثل البلدة الأخري وقناديل البحر وغيرهما‮ .‬
‮ "‬ماوراء الكتابة‮ "‬هو جنس أدبي مستقل‮ .‬عمل أدبي مستقل‮ ‬،وليس مجرد تعليق أو سرد علي هامش الإبداع‮ ‬،هو المتن ذاته‮ ‬،هو السيرة الذاتية وليس سيرة الكتابة فقط‮ ‬،فحياة إبراهيم هي الكتابة‮.‬
‮ ‬وأخيرا فإن مايكتبه إبراهيم في العامين الأخيرين من مقالات صحفية‮ ‬يستحق وقفة خاصة‮ .‬يدافع ابراهيم بضراوة عن الثورة وشبابها الذين‮ ‬يتعرضون للتنكيل والتعذيب والحبس‮ ‬،وحتي عندما التقي برئيس الجمهورية لم‮ ‬يتحدث إلا في هذه القضية التي‮ ‬يعتبرها قضيته الشخصية‮ .‬
‮ ‬شكرا‮ ‬يا أبو خليل‮ ‬،ليس علي موقفك من قمع وسجن وتعذيب الشباب‮ ‬،فهذا واجبك‮ ‬،بل الشكر علي‮ ‬كتابك الجميل الممتع والصادم أيضا‮ .‬



* نقلا عن : خبار الادب
9/10/2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى