عارف حجاوي - الرأس المتدحرج.. ومفاجأة متأخرة.. قصة

عزيزي المستمع، كان لي جارٌ له في الحياة طريقة يعرفها ولا يعرف غيرها، كان يعرف للقرش موضعه.. أو بالأحرى "لكلِّ" قرش موضعه. قَلَّما صادفتُه خارجاً من بيته في الصباح، فهو يخرج في السابعة، وأنا كنت أخرج في السابعة والربع. فإذا ما أطللتُ من نافذتي في السابعة وجدته قد بدأ يتدحرج في الشارع. فهو رجل كبيرُ الرأس مكوَّرُه، وليس في رأسه شعرةٌ واحدة، وجسمه نحيف، وقدماه صغيرتان. كان يشبه علامة الاستفهام. وهو إذ يمشي يدفعُ برأسِه إلى الأمام فيَهوي رأسُهُ، فيلحقُ به سائرُ جسمه.. فيتحرك. ويظل رأسه يسقط.. ويظل جسمه يسرع كي يسند الرأس.. حتى يصل إلى دكانه. ويقول: يا فتَّاح يا عليم، ويفتحُ أقفالَه، ويقول: يا رزَّاق يا كريم، فيأتيه الزَّبونُ الأول.. وتمضي عليه ساعاتٌ عشرٌ - تزيد في الصيف، وتقل في الشتاء - حتى مغرب الشمس لا يفارق الدكان، ففيه يتغدَّى، وفيه يصلي، وفيه يشرب قهوتَه لو كان يشرب القهوة، لكنه لا يشرب القهوةَ ولا الشاي؛ في دكانه يعيش. وهو، مع هذا الدَأْب، مستقيم يعرف الحق. يزنُ لك أوقيَّة السمسم وزناً عجباً، فإذا وضع الكيس في الميزان أخذ يزيدُ فيه من مجرودِهِ حبَّةً حبةً حتى يرجحَ رجْحَةً خفيفة، ثم لا يزيدُ سمسمةً واحدة. لكنه عندما يرتفع سعر التنباك يظلُّ يبيع القديم بالسعر القديم حتى ينفَد.
لقد علَّم أبناءه، وبنى لهم. لكنه لم يبرحْ بيته المتواضع، ولم يركب سيارةً ولا أخذ عطلة. ولستَ تراه إلَّا واقفاً في دكانه يبيع، أو قاعداً يأكُلُ غداءً أُرسِل إليه من البيت في سَفَرْطَاسِ ألومنيوم مبعَّج.
كنت أغتاظ منه لأنني لم أكن أرى وراء هذا الإنسان شيئاً من الإنسانية بالمفهوم الواسع. فهو لا يضاحك جاراً، ولا يقرأُ جريدة. وإذا فتح الراديو فلكي يسمع الأخبار ويضبطَ ساعتَه قبلَها. أما بعد الأخبار فالراديو محرَّم، حتى لو بُحَّ صوتُ المذيع وهو يعلن عن أحلى البرامج. أليس الراديو يسحب كهرباء؟
ذات مساء مات جاري ميتة فجائية، فقعدتُ أحسبُ كم ستكون دِكَّتُهُ. وأقول في نفسي لعله خلّف لأولاده الملايين. وفي ظهر اليوم التالي شيَّعتْه البلدُ كلُّها في جِنازةٍ مَهيبة. خرج من بيوتهم ناس لم تكن تعرفهم شوارع المدينة، خرجت نساء، وخرج رجال. والتقى في هذه الجِنازة الغريبة الوجيه والفقير، وكان لها ذيل نسائي نَدَر مثلُه في جنازات البلد.
واستقصيتُ عنه فعرفت أنه لم يخلِّفْ من المال شيئاً. وأنه كان محسِناً، له في الإحسان طريقةٌ لا يطيقها ولا يتقنها أحد. كان يحسن إلى الفقراء لأن هذا هو الحق، وليس طلباً للذِّكْر، ولا للوجاهة. عندما عرفت ذلك قعدتُ ألوم نفسي لوماً شديداً لأنني لم أر في ذلك الرجل إلا صلعة كبيرة تتدحرج أمام جسم نحيف. وعرفت أن نظرتي للناس كانت غلط غلط.

عارف حجاوي

- من كتاب "غلط غلط"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى