أنيس إبراهيم - طقوس التعرَّي

هي الكأس السابعة، أو السابعة عشرة لم أعد أدري، الكأس التي معها يعود الصفاء إلى رأسي، أو يغور العكر. " من يسكر لا يعدّ الأقداح ". أنا أعدّها ومع ذلك أسكر.‏


الليلة الأولى من تموز، في مثل هذه الليلة ولدتني أمي، ولدتني أغبش كليالي تموز، والسرّ كلّ السرّ أنها ولدتني في الليل و ليس في النهار، فكان عمري أدكن كالليل، ولكن بغير نجوم. ‏


الليلة الأولى من تموز هي الليلة التي تكرّرت سبعين مرّة في عمري، وأقسم أنني في هذه الليلة المباركة سأبدأ أشرب سبعين كأساً متواليات، ولو استمرّ الأمر ثلاث ليالٍ بنهاراتها، لأني موقن بأن هذا - وحده - طريق الخلود.‏


الكأس السابعة، أو السابعة عشرة لم أعد أدري، يا ربّ العزّة متى تأتي السبعون؟! لا شك هي آتية في الأسبوع السابع من تموز أي أنها في الأسبوع السابع من الشهر السابع من سنة ينسلخ فيها العدد السابع عشر مرّات ثمّ يستوي على عرش عمري، هذا العمر المبارك الذي يدخل القمر - معه - في البرج السابع مترافقاً مع زحل أو - ربّما - تأتي في ساعة تكون ساعة الخلاص.‏


الليلة لن تكون بغير طقوس، ما أظنّ قدّيساً يدخل ملكوت السموات إلا عارياً، صحيح أنني لست قدّيساً، ومع ذلك فسوف أمارس طقوس التعرّي، قذفت بي السماء من رحم أمي عارياً، وسوف أعود إلى السماء عارياً متجرّدا من متاع هذه الدنيا، لأنها ساقطة وسافلة وملعونة فيها يصلب الربّ كل يوم خمس مرات، أو خمساً وخمسين، أو مئة وخمساً، وفي ظنّي أنه لا يبارح الصليب حتى صار الصليب رباً أو الربّ صليباً، أو أنه صار بيرقاً، ولسوف يبقى حتى يوم القيامة.‏


إذن وبعد أن عقدت العزم على أن أحيي الليلة، أو ثلاث ليالٍ بنهاراتها، أو سبعاً، أو زد عليها، أو أنقص منها، ما دمت عقدت العزم فالليلة - ولأنها الأولى من تموز - سوف أمارس طقوس التعرّي.‏


المكان هو المقبرة، والزمان منتصف الليلة الأولى من تموز، هذه البلدة ملعونة ومن فيها، أمواتها أحياء، وأحياؤها أموات، أحسّ بأن القبور تتململ وربمّا تزقو من حولي، و لعلّها تتزاحم كي تحكم الطوق دوني، وقد تتعرى هي أيضاً وتشاركني الرّقص فالمشهد قد أثارها وحرّك الشهوة النائمة فيها، فيما البلدة قد انطفأت عيونها، أو أنها تنبش في العتمة عن رذيلة أو فضيحة، أو أنها تحوك دسائس كي تنشرها على صفحة الأفق الشرقي أوّل الفجر.‏


بلدة تتكاثر فيها الحرباوات علناً وتحت ضوء الشّمس، وتقّرب فيها القرابين حتى أن واحدها يتقرّب إلى الله بأخيه أو أخته أو أمه لا فرق، المهمّ أن يتبوّأ سدرة المنتهى ولو بنعل ملطخة بالدم.‏


السرّ كلّ السرّ أنها ولدتني في الليل وليس في النهار، لذا قدّر عليّ أن أرعى جواميس البلدة ردحاً من الزمن، والجاموس أسود كالليل والله قدّر لكل امرئ قدره، فلو أنني ولدت في النهار لكنت رعيت أغناماً بلقاً كتلك التي رعاها سيدّنا يعقوب، أنا أعرف أن أمه ولدته أول الفجر فكانت أغنامه رقطاء بين الأبيض والأسود، ولقد غلّت له رزقاً كثيراً.‏


الليلة غبشاء، والجواميس غبش، وكذلك عمري. صحيح أن الجاموس أحرث للأرض، وأقوى للجرّ، وأصبر على النطاح، والحمد لمن لا يجاوزه الحمد كذلك كنت أنا. قلت ردحاً من الزمن، الحقيقة هي السبعة السابعة في جدول الحساب، وكانت غلّتها أن امتلكت سبع جاموسات حلوبات حارثات صابرات على النطاح. وقال سيدّ مدين: " إني أنكحك إحدى ابنتيّ على أن تؤجرني ثماني حجج.." تمنيّت في سرّي لو أنها سبع حجج على عدّ الليالي وليس النهارات، لكنّ سيدّ مدين ولد في النهار بغير شك - لذا فقد اقتنى أجيراً.‏


وكان ما كان. عوّدتني الجواميس أن الأنثى تلقح كلّ عام مرّة، وأن الأرض تحرث كلّ عام مرّة، ما تكاد الجاموسة تشيل ذنبها حتى يأتيها الفحل وما يأتي الشهر التاسع حتى تتئم، ومن كلّ سبع توائم كان لي جاموسة واحدة حتى عددت سبع جاموسات، وصارت بنات القرية ترمقنني بشيء من الوداعة، أو شيء حسبته الحبّ.‏


ملعونة هذه البلدة ومن فيها، صارت الأنثى تتشّهى التلقيح بين المرّة والمرّة مرة، و صارت الأرض تخصب حتى تقيء ما في جوفها، والحقيقة إن ربّ الأرض قال لها: أفرزي نتناً وقيحاً، فكانت الفطريّات، والمحل، والليرة التي لا تساوي شيئاً.‏


سيدّ مدين كان زوجني ابنته على سبع، والمصيبة أنها كانت شقراء بلون القمح، كانت ضفائرها سنبلات، وكان خداها بلون القمح، او بلون التراب. خدّوج بدأت تبرم بالجواميس وتمقتها، فقد فطرت على غير عاداتها، وما اعترفت - يوماً - بأصالتها أو سبقها، وبدأت خدّوج تبرم بكلّ ما هو أغبش، بي، وبالجواميس، ولا عجب، فأمها تؤكد أنها ولدتها في رابعة النهار.‏


تشيل الجاموسة ذنبها كلّ عام مرة، أما خدّوج ففي كلّ ساعة مرتين مرّة ساعة تضاجع نفسها بنفسها، ومرة ساعة توزع الاشتهاء.‏


كنت غللت سبع بنات لسن بلون الجواميس، ولا بأشكال الجواميس لقد جئن إلى هذه الدنيا، إليّ، بأكفال ولكن من غير أذناب.‏


أكاد أقسم بالجاموس الأكبر - ولكن من غير خطيئة - الجاموس الذي تتربع الأرض فوق قرنه العظيم على أن هذه البلدة ملعونة ومن فيها فلا قدّ يسوها قدّيسون، ولا زناتها زناة .‏


أن أطلب أمراً من اللواتي هنّ بعرف السجل المدنّي بناتي يمددن ألسنتهنّ ويهزأن بي، يحتقرنني ويقلن بأنني نشأت على أخلاق الجواميس وعاداتها، و بأنني لا أصلح للحياة. حمداً للذي لا يجاوزه الحمد، و حمداً للسبعين وللجواميس، فالجاموس يبرأ من ابنته متى صارت على شاكلة أمها. وأجمل الصبر صبرك على ما تكره.‏


أيتها السيدات اللواتي طلعن على هذه الدنيا بأكفال ولكن من غير أذناب أيها السادة الذين لم يتقنوا صحبة الجواميس فلم يتعلموا كيف يدارون وقاحاتهم أيها السيدات والسادة أنتم لا تعرفون طقوس التعرّي.‏


لعلّ المسألة ابتدأت أوّل زمن التبرّج، حين صارت خدّوج تشيل ذنبها مع كلّ هبّة ريح، لا فرق، إن كانت رياح الخماسين الحارة، أو الريح الشمالية في أول زمن التبرّج الذي لا زمن له، عندما راحت توزّع الشهوات للغادي والصادي، وتصطنع اللباقات واللياقات، عندما صارت تبرز شفتها السفلى، وتنعس بعينيها، وتغنج وتتصابى، وتربأ بنفسها وبأصلها وببناتها عن الحرث والزرع والجواميس والحصاد، لقد وقفت خدّوج نفسها للعلاقات الخارجية، فصارت تغدو وتروح بشغل أو غير شغل، وصرنا - بحمد الله - مرموقين ومعروفين ومشهورين لنا معارف وعلائق وصداقات وقرابات لا يدري الله الأكبر من أين ولا كيف تمّت؟ وصار البيت مضافة ، فيه تولم الولائم وتقام العزائم ، بابه مشرع كصدر خدّوج وساقيها، أمام علية القوم و أسافلهم وبنعمة خدّوج صرنا بصاقاً حتى في أفواه أولئك الذين يشبهون المزابل.‏


أياماً. ليالي. سنوات. رحت أحرن كالجاموس، احرن وأنطح وأرفس حتى تكسّر قرناي، وشجّ رأسي، وشوّه وجهي، وتقطعت أوصالي، وصرت الذي يلبط النعمة، ويقطع الرزق، ويدفع بالبنات إلى الجوع والعري، فماذا لديّ للعيد أو للعرس أو للتهنئة أو للزيارة؟!.‏


ولماذا لا أكون كفلان؟ وليس بيتنا كالبيوت؟ وجاهنا كالجاه؟ ولماذا لا أعرف كيف أعيش، ولا أترك الناس يعيشون؟.‏


رويداً. رويداً انفلت الحبل وألقي على الغارب، وفكرت: أرض الله واسعة، " وهو الذي يرزق الدود في الحجر الجلمود ". غير أن هذه لم تنفع، فأنا الذي أتيت بهن إلى هذه الدنيا، وأنا مسؤول عنهن. وفهمت أنني ضرورة للبيت، ضرورة لا بدّ منها، فقد صرت بنعمة خدّوج سترة ولو أنها تكشف أكثر مما تغطي، ولكنها على الأقلّ سترة.‏


من على أطراف الموائد رحت ألتقط الفتات، ومن بقايا الكؤوس في الليالي الباردات رحت أتلمّظ برشفة عرق، وليلةً فليلةً رحت أعتاد الجلوس على الموائد، و أتقن عبارات المجاملة،والهزء، والسخرية والفحش، وأعرف كيف تقرع الكؤوس وترفع الأنخاب، وصارت تطيب بي السهرات أكثر فأكثر، لكنّما سرعان ما رأسي يدور وسرعان ما أهذي وأهذر، وسرعان ما أتكوّم في زاوية مهملة كمعطف مدعوك، و أمام عينيّ المغبشتين يحدث ما لا يحدث في مقاصير ألف ليلة وليلة.‏


في صباحات قليلة يعود إليّ الصفاء، فأصغر أمام نفسي وأتضاءل وأبكي، و لا ألبث أن أثور بأية بادرة مهما صغرت، فتعاودني روح الجواميس فأرفس وألبط و أهتاج، وما ألبث أن أخرج من المعركة - أمام أعين الجيران - سكيراً وسافلاً وقليل أصل، أخرج وأنا الذي سمح، أنا الذي فتح الباب، أنا الذي يعيش عالة على امرأته وبناته ، فأنكفئ لاعنا نفسي وعمري، وهذه البلدة ومن فيها، فلا قدّ يسوها قدّيسون، ولا زناتها زناة.‏


تناقصت الجواميس واحداً واحداً وواحدة واحدة، وبقيت الأرض بغير حرث ولا زرع، ويوم أولمت العجل الوحيد الباقي بكيت كما لم يبكِ أب فجع بابنه الوحيد، وقهقهات خدّوج تخترق أذنيّ كالمسامير. عرفت أن عمري انتهى، وأن طعم الحياة مرّ، وشيئاً فشيئاً صارت الأرض - قطعة قطعة وشجرة شجرة - في حوزة من يسمرون على المسفوح من دمها.‏


وشيئاً فشيئاً ما عادت تلوكنا الألسن كأنما صرنا مزبلة تراكمت، فتفسّخت فعافها الناس.‏


هي ذي السنون العجاف تطلّ برأسها، فالأجساد فقدت رواءها وأحابيل الغواية تقطّعت أو كادت، وصارت تمرّ المساءات ننتظر زائراً فلا يزور، وعلام يزور؟ فلا عجل يولم، ولا أرض تباع، ولا جسد يغوي، والبنات تباعدت بهنّ السبل، وخدّوج تشدّ على بطنها وتبصق في وجهي كلّ صباح وتخرج.‏


أيتها السيدات اللواتي بأكفال من غير أذناب، أيها السادة العراة من غير طقوس. من أجل الله والجواميس وأجلي تعلّموا كيف تمارس طقوس التعرّي.‏


إنها الكأس السابعة، او السابعة عشرة، أو السبعون ما أحد يدري، وها أنا عارٍ كما ولدتني أمي، ولسوف أبقى ثلاث ليال بنهاراتها، أو سبعاً، أوسبعين، أو ما يمدّ به العمر. نذراً عليّ وتكفيراً عن استهتاري بعهد الجواميس، فلا زال فيّ بعض القوة ولا زال في الكأس بقيّة، ولا زالت القبور تتابع أروع رقص غجريّ فقد تعرّيت من جلدي، ومن لون عينيّ، وها أنا الآن أنزع آخر قناع عن عقلي.‏


الكأس تتناقص، والرقص يتوانى، ومع آخر رشفة أنطفئ أنا والكأس، ونجوم السماء، وتبقى - وحدها - شواهد القبور.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى