مولود بن زادي - "جسور الحبّ غرينفيل تاور" لمريم مشتاوي ومأساة حريق لندن

في يوم 14 يونيو/حزيران 2017، نشب حريق مهول في برج غرينفيل في لندن، المكوّن من أربعة وعشرين طابقا، مخلِّفا عشرات القتلى وما لا يحصى من المفقودين، منهم عدد كبير من الأجانب اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. ومن الذين سكنوا هذه العمارة فتاة جزائرية، بطلة قصّة "جسور الحب غرينفيل تاور" للكاتبة اللبنانية البريطانية مريم مشتاوي، الصادرة عن دار المؤلف في بيروت 2018.

تدور أحداث الرواية في بيئتين مختلفتين: الجزائر وبريطانيا. تسافر بطلة القصة "بايا" من عاصمة الجسور المعلقة قسنطينة إلى عاصمة الضباب لندن، فتقيم فيها بطريقة غير شرعية وتشهد واقعة حريق برج ﻏﺮﻳﻨﻔﻴﻞ.

مدينة الجسور المعلقة

ترعرعت بايا، ابنة مدينة قسنطينة، في بيت متواضع مع والدها وأمها وجدتها الأمازيغية رقية، وأخواتها ندى وفاطمة ومريم. اصطدمت الفتاة بواقع مرير بعد وفاة والدها الذي ترك لها ديونا. ولولا فضل سيدة إنجليزية تدعى كليونا لما تمكنت شقيقاتها من مواصلة الدراسة. متاعب بايا لم تتوقف. سرعان ما فقدت جدتها، عزاءها الوحيد بعد فقدان والديها. وفي غمرة الصدمة والضياع، اقترحت عليها كليونا السفر إلى لندن والإقامة في بيت شقيقتها مارغريت، وأعانتها على الحصول على التأشيرة والتذكرة.

مدينة الضباب

وصلت بايا إلى بريطانيا وهي مصممة على إيجاد وسيلة للبقاء في هذا البلد، وبعد ذلك السعي لإحضار شقيقاتها. لكنّ التجربة البريطانية بدت قاسية منذ البداية. مارغريت لم تحسن معاملتها، ما حملها على الفرار من بيت شعرت فيه كما لو كانت في سجن. واستطاعت البقاء بفضل شاب تعرّفت عليه في الطائرة يدعى يونس الذي ساعدها على استئجار شقة في عمارة ﻏﺮﻳﻨﻔﻴﻞ وسمح لها بالعمل في محله. كان من سكان تلك العمارة مغاربة، وسوريون من أمثال فراس، الفنان التشكيلي وشقيقه باسل، المهندس المعماري: "أخبرني أنهما من سوريا وهربا بمركب صغير من تركيا إلى اليونان إلى أن وصلا لندن. كانت مغامرة غرق فيها آخرون في البحر." كانت منهم أيضا شابة أفريقية "فرّت من بلادها عن طريق البحر، وغرقت في أحد الشواطئ، لكن هناك من أنقذها، والآن حصلت على اللجوء، وتعمل في أحد محال تصفيف الشعر."

الحريق

يونس الذي أنقذ بايا من الضياع في لندن بمساعدتها على استئجار شقة والحصول على عمل، أنقذها أيضا من الموت الذي عصف بآخرين عند احتراق البرج. ففي 13 يونيو/حزيران - يوم عيد ميلاده - دعاها إلى عشاء على متن سفينة في النهر، فتأخرت إلى ما بعد منتصف الليل. ولما اقتربت السيارة من المنطقة، كانت الصدمة شديدة حيث شاهدت غيوما قاتمة تحتلّ السماء ومئات من رجال الإطفاء. ورأت ألسنة النيران تتصاعد في العمارة باتجاه الطوابق العليا.

بدت الروائية بارعة في تصوير المشاهد الدرامية المؤثرة على منوال قصة امرأة تدعى شهد كانت تسكن مع ابنتيها في الطابق الأخير. اتصلت بوالدتها عند نشوب الحريق لتبلغها أنها اتصلت برجال الشرطة ونصحوها بعدم الخروج من الشقة. واتصلت بها لاحقا لتقول لها: "وداعا يا أمي. الحريق وصل إلينا الآن! اغفري لي!"

قسنطينة بكل تراثها وتقاليدها

ما نلمسه في هذا العمل أيضا براعة الروائية في تصوير الواقع المعيش في مجتمع يعاني من نمو ديمغرافي سريع وأزمة سكن خانقة: "أما أنا وجدتي وأخواتي الثلاثة فكنا ننام في الغرفة الأخرى التي كانت تخلو من الأسرّة... كانت غرفتنا تستحيل في المساء منامة فنطرح فيها الفراشات على الأرض ونعود لنخفيها صباحا." ملامح البيئة الجزائرية حاضرة بجلاء على منوال الوصف الدقيق لمدينة قسنطينة ونظام الحياة واللباس المعروف فيها: "أقف في محل أبي الذي يتصدر الحي، وأراقب الجبّة والقفطان والملاية والقشابية."

هذا الواقع تميّزه أيضا عادات وتقاليد ومشاعر محبة وتضامن وكرم: "كيف أنسى وصية جدتي بأن أحتفظ بزيّها القبائلي الذي أهداها إياه جدي بعد الزفاف. كانت تتباهى بالجبة الحريرية المزخرفة بخيوط ذهبية وبرسومات تحتفل بالتراث الأمازيغي الأصيل." وأيضا: "علمتني كيف أطبخ طبق الكسكسي بالدجاج، وأقوم بتوزيع بعضه على الجيران حتى وإن كانت الكمية قليلة تعبيرا عن المحبة والتضامن معهم، وكعمل رحمة يجلب الخير لأصحابه."

ولم يكن هذا الواقع يخلو من الأساطير والتخاريف الشعبية: "كانت جدتي تستحم بماء الورد وقد أجبرت أمي أن تحممني به منذ صغري. فماء الورد في نظرها هو عصارة دموع الملائكة التي تتقاطر فوق وجوههم في لحظات الخشوع... يبكون فتنهمر دموعهم فوق حي السوقية الذي خصّه الله وميزه عن بقية الأحياء." وأيضا: "رأيتُ جدتي يوما تذبح دجاجة في الصباح، تصفي دمها في كوب وتطلب من أمي أن تشربه بلعة واحدة. ثم تأمرها أن تستحم وتفرك جسدها بكومة الريش كي يأتي الولد أو الديك الذي تحلم به العائلة!"

واقع ممزوج بالخيال والوجودية

الرواية تعيد إنتاج الواقع ممزوجا بالوجودية والرومانسية والخيال. وهذه الوجودية في أبسط أشكالها تُركز على الحرية الفردية والاختيار الشخصي ومصير الإنسان بعد الموت: "هل عرج خلف النار يخيفها ويعقد ألسنتها بيديه ويلعب بها كما يلعب الأطفال بالحبال. أسيخبر جدتي أني أعرف سرها؟ كيف سيحتفلان بالربيع القادم معا؟... لابد أن تمطر السماء 'الشرشم' بعد أن تطيبه جدتي بأنفاسها وتنثره ما بين الغيوم... أعرف أن الملائكة ستحنّي لها يديها كي ترفعهما...

" الرواية أيضا تعبير صادق عن خيبة أمل واستياء وسخط على الحياة: "في كل يوم يمر تهزأ بي الحياة أكثر، وهي تتأملني أحارب طواحينها وأنا مدركة تماما أني في مواجهة مع الهواء." التعبير عن هذا السخط يتجلّى أيضا في قولها: "فصرخت بكل ما أوتيت من قوة: - لمَ كل هذه القسوة يا الله؟!"

إنه سخط مزدوج على القدر وبريطانيا المتطورة التي، رغم كل ما تملكه من تقنيات، عجزت عن إخماد هذا الحريق: "كنت قد سمعت أن البلدان المتحضرة تستعين بطائرات مخصصة للحريق. أيعقل أن بريطانيا ليس لديها مثل هذه الطائرات ولمَ لم يتم استخدامها؟!"

الملفت للنظر أيضا هو الزخم العاطفي العظيم من خلال بطلة القصة بايا التي أحبت رجلين مختلفين في بيئتين مختلفتين. أحبت تقي الدين في قسنطينة الذي قالت عنه: "أخبرتها بأني أحبه منذ عرفت الحب وبأننا كبرنا معا في نفس الحي." ووقعت في غرام باسل في لندن من أول نظرة، فتساءلت بعد فقدانه إثر الحريق: "كيف مشيت وتركت رماد الرجل الذي أحببت؟!..."

مظاهر وسلوكيات سلبية

تعرض هذه الرواية بعض المظاهر والسلوكيات السلبية الشائعة في بريطانيا، التي يشارك فيها أجانب وعرب ومن شأنها أن تشوّه صورة العربي في هذا المجتمع، مثل التحايل على القانون لأجل تحقيق مكاسب مادية. وقد حضرتُ شخصيا بعض القضايا العربية التي أحيلت على العدالة البريطانية، كمترجم. وأبسط مثال عن ذلك في الرواية: "الرجل متزوّج إسلاميا، ولم يسجّل زواجه كي يتمكّن من التحايل هو وزوجته على القانون. فقد أعطته البلدية شقة صغيرة بحكم أنه رجل عازب، وأعطت زوجته بيتا لأنها أم عازبة تعيش مع أولادها. فسكنت هي وزوجها والأولاد في بيتها. أما الزوج المتحايل فأسرع يبحث عن مستأجر يسكن شقته كي يحصل هو على مبلغ." يتضح ذلك أيضا في العمل غير القانوني: "وشدّد على أن أحرص على السرية الكاملة في كل ما يتعلق بعملي وإقامتي، وألاّ أخبر أحدا أنني لا أحمل أوراقاً قانونية تخولني العمل."

سرد أقرب إلى القص السير ذاتي

قوة السرد في هذه الرواية تعطي الانطباع أننا أمام قص سير ذاتي، ونشعر أنّ الكاتبة حاضرة في هذه القصة، خاصة أنّ الإحالات المكانية حقيقية مجسدة في قسنطينة ولندن، مع وصف دقيق لأماكن في لندن مثل المعالم السياحية المعروفة: "أدهشني الحرس الملكي أمام قصر بكنغهام وأعجبت جدا بزيهم العسكري الأنيق." مثال آخر: "وقد مررنا بشارع يدعى ﺑﻮرﺗﻮﺑﻴﻠﻠﻮ، كان شارعاً طويلا فيه سوق ممتدة على طوله وخيم تستريح في دفئها عربات محملة بالبضائع."

"جسور الحب" أعادت إلى أذهاننا وقائع حريق يعدّ الأسوأ في تاريخ بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. إنها الصدمة الكبرى التي عاشتها لندن سنة 2017، وعشناها معها عن قرب. وها نحن نعيش لحظاتها مجدداً بألم مماثل من خلال هذا العمل الذي أحسنت فيه الكاتبة تصوير مأساة هذا البرج الذي "استحال لمدخنة عملاقة". وإن تلاشى ذلك الدخان في سماء لندن، فالذكرى المؤلمة تظل عالقة في الأذهان لأجيال.


طيور مهاجرة حرة - بريطانيا


جسور الحب.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى