بوسلهام الكط - العربــة: محمد زفزاف

نجد في الموسوعة الفلسفية، ترجمة: سمير كرم. الطبعة الأولى، تشرين الأول (أكتوبر)، 1974، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص.272.

"العلاقة: لحظة ضرورية في التفاعل بين جميع الظواهر تحددها الوحدة المادية للعالم، وعلاقة الأشياء موضوعية مثل الأشياء ذاتها، فالأشياء لا توجد خارج علاقة، والأخيرة هي دائما علاقة أشياء، فوجود كل شيء، وسماته وصفاته النوعية وتطوره تتوقف على المجمل الكلي لعلاقته بالأشياء الأخرى في العالم الموضوعي، ولا تبدو الصفات نفسها -وهي بالضرورة كامنة في عملية أو أخرى أو في شيء- إلا في علاقتها بالأشياء والعمليات الأخرى. ويفضي تطور الظاهرة إلى تغير في علاقاتها بالأشياء والعمليات الأخرى، واختفاء بعض العلاقات وظهور علاقات أخرى".

ما هي أهمية وظيفة العلاقة/العلاقات، في الإبداع القصصي على الخصوص وفي المجالات الأخرى على العموم..!؟!

هل يمكننا اكتشاف ما تطرقنا إليه في التعريف السابق بصدد "العلاقة" من خلال مجموعة قصص محمد زفزاف: "العربة"..!؟!

تكمن أهمية وظيفة العلاقة في مجال الإبداع القصصي وفي كل المجالات الأخرى، في كونها تحدد فعالية ونشاط المبدع أو المفكر.. وهذا ما يجعل وظيفتها أمرا أساسيا وضروريا للقيام بعمل من الأعمال الفكرية أو الثقافية أو الإبداعية..الخ ولعل الأعمال الإبداعية لا يمكنها أن تحقق إلا وفق شروط ذاتية وأخرى موضوعية.. وكيفية ضبط هذه الشروط وتحديدها وفهمها، تحتاج إلى علاقات متشابكة ومتفاعلة.

وعلى ضوء هذه الشروط وكذلك العلاقات المتحكمة في البناء السردي للقصة مثلا، يمكن للمبدع أن يحدد ما يصبو إلى تحقيقه في عمله الإبداعي الفكري والفني، ومن طبيعة هذه العلاقات أنها متداخلة متفاعلة فيما بينها تؤدي دورها في مجال الإبداع، ولهذا ترتبط إشكالية العلاقة بين الفكر أو الإبداع والواقع، كما نجد في مجموعة زفزاف: "العربة" أشد الارتباط بقضايا الواقع المغربي.. ومن هنا، أهمية القراءة لهذه المجموعة القصصية، كلما أقبلنا على تحليل ومناقشة ونقد.. الواقع المغربي المعيش الذي لا يخلو من تناقضات معقدة في جميع المجالات. ولعل هذه الإشكالية تبدو ضرورية لفهم ومعرفة القضايا المتشابكة الشائكة.. العميقة، التي جاءت تعالجها هذه المجموعة التي نحن بصدد قراءتها.

إن أهمية العلاقات في البناء الحكائي تعطي للقصة طابعا شاملا ومتميزا ودقيقا في مجال المعرفة -في غالب الأحيان-، وهي تزداد أهمية ووضوحا في فضح الواقع الإنساني المتأزم، وفي طرح القضايا الأساسية في المجتمع المغربي بصفة خاصة والمجتمع الإنساني بصفة عامة. ولعل أهمية المعرفة تنطوي على توضيح العلاقات القائمة بين الأفراد والأشياء والظواهر.. باعتبار أن دراسة أية ظاهرة من الظواهر لا يمكن عزلها عن سياقها الواقعي والاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي.. الخ حيث يقول زفزاف في ص.9: "أطفال بلد الخير"، "خلف الحي، الشعبي، وأمام الحي الآخر، وسط الفيلات التي تنتشر على اليمين واليسار. تمتد الساحة طويلة متربة محفرة، يتكرم بعض العجائز المتقدمين في السن، في إحدى الزوايا هنا أو هناك أو حتى فوق روث البهائم".

أما في قصة: "سردين وبرتقال" ص.32، فنجده يقول: "يا إلهي ما أحسن أن يأكل الإنسان سردينا وبرتقالا. فالسردين من حفرة دون أن تكون له كرشى حرام".

إن ضرورة فصم الطرح الإشكالي للنص القصصي في سياق الإبداع كما هو الأمر في مجموعة "العربة" القصصية.. لطرح إشكالية العلاقة/العلاقات كذلك، تبدو أساسية في عملية الربط والتحليل والتركيب.. للتحول الحاصل في البناء السردي الذي تتفاعل فيه مجموعة من العلاقات المتعددة والمتنوعة لهذه القصص.. ولأجل ذلك، ينبغي في اعتقادنا، ونحن نقرأ هذه المجموعة القصصية أن نأخذ في تحليلنا ومناقشتنا أهمية الدور الذي تلعبه العلاقة/العلاقات التي تتفاعل فيما بينها. فمشكلة الغذاء، مثلا في القصة، مرتبطة بمدى علاقة الإنسان بواقعه والواقع بالإنسان.. علاقتنا بخيرات الوطن، وكذلك علاقة الإنسان بالإنسان..!

إن الجهل بأهمية العلاقة التي تربطنا بالأشياء الأخرى وبواقعنا، معناه في الحقيقة، جهل لما يجري في الواقع.. لأن الفهم يؤدي بنا مباشرة إلى الدخول في علاقة مع الواقع المعيشي الحياتي، وهكذا تمثل العلاقة فرصة لمعرفة الواقع والحكم على ما يتمخض ويجري فيه على جميع المستويات. فأهمية العلاقة أو العلاقات بالنسبة للمفكر والمبدع وكذلك القارئ والدارس.. عملية ملازمة للعمل الذي يقوم به الإنسان في هذه الحياة.. وتكون كذلك فعالة في جعل إدراك الإنسان حقيقة علاقته بنفسه ووعيه بواقعه، لذلك لا بد من الاهتمام بأهمية العلاقة في مجال الفكر والواقع..!

يقول محمد زفزاف في قصة: "سردين وبرتقال" ص.30 "في كل مرة كنت أفكر أن الأرض أصبحت لنا بعد الاستقلال (أو لبعض الناس - لا أدري) ولكن البحر ليس لنا". ويضيف قائلا في ص.31: "لكننا على كل حال، قد حصلنا على الاستقلال، وأصبحت الأرض لنا، وأيضا أصبح لنا وزراء مغاربة، وسمعت واحدا منهم ذات يوم يخطب (…). وقال لنا بأنه ينوي أن يهدم البراريك التي نسكنها، ويبني لنا عوضها دورا فيها مراحيض ولها نافذة واحدة تدخل منها أشعة الشمس، لكنه لم يعد منذ ذلك اليوم إلى تلك الساحة…"

وبالرغم من الصعوبات التي تثيرها إشكالية العلاقة بين الفكر والواقع.. فإن أهمية العلاقة/العلاقات تبدو واضحة -كما قلنا- وأساسية في مساعدة المفكر أو المبدع أو القارئ الباحث.. لمواجهة المشاكل التي تعترضه، سواء على المستوى الإبستمولوجي أو السوسيولوجي أو السياسي/الإيديولوجي.. وذلك لمعرفة وإدراك العلاقات التي تربط الناس بواقعهم الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.. الخ من خلال التفاعل القائم في كل الأشياء.. هذا التفاعل الذي يرتبط أشد الارتباط بالعلاقات السائدة في واقع مجتمع من المجتمعات أو القائمة في بنية من البنيات أو ظاهرة من الظواهر. وهذا الارتباط بدوره يشكل حقيقة وضعية الناس وحقيقة واقعهم الحياتي، وهذه القصة تسعى من خلال الاعتماد على أهمية العلاقات في عملية الإبداع والسرد.. إلى تناول دراسة الواقع، ضمن إطار من العلاقات والمؤسسات الاجتماعية التي تشكل بدورها العناصر الأساسية للمجتمعات الإنسانية.

إننا لا نشك، كذلك، في أن للكاتب المبدع.. وظيفة اجتماعية وثقافية وفكرية.. يؤديها من خلال علاقالته وارتباطاته الأساسية، ذات الصلة المتينة بالواقع الإنساني والمجتمعي.. الثقافي والحضاري.. الفكري والتاريخي.. السياسي والإيدييولوجي.. الخ والأمر كذلك بالنسبة للغة التي يستخدمها كأداة هامة للتعبير عن تلك الأبعاد المتشابكة والمتشعبة.. هذه اللغة التي تنطوي على مجموعة من الكلمات والمصطلحات أو المفاهييم.. التي تؤدي هي الأخرى بدورها وظيفتها.. الفكرية والثقافية.. الإنسانية والاجتماعية.. من هنا يمكن القول بجدلية هذه العناصر أو المحدداث الثلاثة: الكاتب واللغة والمفهوم، في كيفية التعبير عن الواقع بمفهومه الشامل أو عن ظاهرة من ظواهره ذات الارتباط أو الصلة بالظواهر الأخرى.

وضمن العلاقات القائمة بين تلك العناصر، تبدو أهمية وظيفة كل عنصر في التعامل مع الواقع. فوظيفة الكاتب المبدع في كل عمل إبداعي، هي العمل على استخدام لغة قادرة على التعبير الموضوعي وبالتالي الكشف عن الخلل داخل المجتمع.. لكن اللغة الأداة التعبيرية بالرغم من وظيفتها هذه.. فإنها تحتاج بالضرورة إلى المصطلحات أو المفاهيم أو الكلمات -كما قلنا- التي تشكل أساس تكوينها كلغة. ومن هنا يلتجئ الكاتب المبدع إلى توظيف المفاهيم التي يعبر بها عن ما يريد التعبير عنه.. يقول محمد زفزاف في قصته "الكناس" ص.20: "وبعد أن دخن سيجارة أولى وثانية ألقى بنظرة على نهاية الزقاق. ما تزال أمامه مسافة لملء العربة بالأزبال والعودة بها إلى المستودع لإفراغها. ولا شك أن العامل الذي يحرق الأزبال في المستودع يكون الآن قد انصرف، فهو يغادر العمل قبل الوقت لأن الرئيس يغادر العمل قبل الوقت هو كذلك. لكن هذا ليس مهما فحرق الأزبال قد يتم في أي وقت. لكن قبل حرقها تكون قد تجمعت جيوش من الحشرات لا يعرف منها إلا الذباب".

هكذا تتضح علاقة الوظائف المتنوعة والمتعددة، والتي تشكل دورا أساسيا في عملية التعبير، ضمن الإطار العام لمفهوم الإبداع. ومهما تكن محدودية وظيفة مفهوم من المفاهيم، مثل مفهوم "الكناس" على سبيل المثال لا الحصر، فهناك إدراك عميق للدور النشيط والحيوي لوظيفة المفهوم في إطار علاقته بالمفاهيم الأخرى، داخل لغة من اللغات وضمن الإطار العام لعملية الإبداع عند الإنسان المبدع.. وهكذا يمكن القول ونحن نقرأ قصة "الكناس" ضمن مجموعة: "العربة" لمحمد زفزاف.. أن الاهتمام بهذا المفهوم الدال والدقيق.. قد جاء نتيجة ما يجري في الواقع الموضوعي ومن خلال العلاقات القائمة في المجتمع الإنساني، وعلى الرغم من الإدراك البسيط لوظيفة الكناس في المجتمعات الإنسانية.. فإن الإبداع الجاد والواعي.. يعمل على طرح وإثارة وتصوير.. المشكلات الناجمة عن الصراع والتطاحن.. بين المستغلين والمستغلين.. إضافة إلى إيديولوجييات الهيمنة والقهر والتسلط.. التي تهمش المستغلين في كل شيء..!

والواقع أن مسألة وصف وتصوير ونقد.. وضعية المجتمعات والناس، المتردية والأخطار التي تهددهم كما جاء في قصة "الكناس" مثلا، ما هي إلا محاولة من المحاولات الفكرية والإبداعية التي تعمل على البحث عن إيجاد حلول موضوعية وواقعية وإيجابية.. لأوضاع المجتمعات الإنسانية المنضوية تحت مظلة التبعية والهيمنة وكل أنواع التسلط. هذه القصة التي كشفت عن هشاشة تحمل المسؤولية بالنسبة للمسؤولين وفضحت طبيعة العلاقات المجتمعية والاجتماعية. من هنا تكمن أهمية الإبداع في أنه يشكل إحدى الأدوات لفهم وضبط وتصوير العلاقات الإنسانية، والسؤال الهام الذي يطرح في قراءة هذه القصة "الكناس" هو: ماذا يمكننا أن نفهم أكثر، إذا ما حاولنا التعمق في ما جاءت تحكيه وتصوره وتصفه.. هذه القصة.!؟!

إن إحدى القضايا الأساسية المطروحة، في هذه القصة، هي كيفية فهم مفهوم الكناس أو وظيفة هذا المفهوم في مجال الإبداع الأدبي.. في جانبه السلبي وجانبه الإيجابي كما جاء واضحا في ص.20 لـ"العربة" لقصة "الكناس": "فهناك من المخلوقات من يريد أن يعيش في الأزبال، وهناك من يريد أن يعيش بين الأزهار والبراعم" و"المهم أنه يكنس الأرض وهن يكنسن الجيوب بعرق جبيهن وأباطنهن".

وإذن هل هناك وظائف ومعان ودلالات.. متعددة لمفهوم "الكناس"!؟

يطرح هذا السؤال نفسه وبصورة دقيقة وحادة في قصة "الكناس" التي تعتبر صورة ناطقة وشاهدة.. من بين الصور السائدة والمعيشة في الواقع الإنساني والاجتماعي.. الحي والموضوعي.

وطرح هذا السؤال في عمقه جاء بفعل بروز أهمية وظيفة مصطلح "الكناس" وكذلك بروز العديد من العلاقات والتفاعلات والمشكلات.. في هذه القصة وفي الواقع الحقيقي والفعلي للناس. ومن أبرز هذه الظواهر والصور: وجود مخلوقات لا تستطيع العيش إلا في الأزبال وبالأزبال.. على العكس من المخلوقات الأخرى التي تريد العيش بين روائح الأزهار الجميلة، بعيدة كل البعد عن حياة التعفن والأمراض والروائح الكريهة.. ومن هنا تظهر أهمية الكنس والكناس في جانبها الإيجابي.. مثل وجود ناس يكنسون الأزبال المضرة بالعمل على نظافة واقع الناس من المضرات والمخاطر.. التي تهدد حياتهم وحياة مجتمعاتهم. وآخرون يقومون بكنس ونهب.. خيرات المجتمعات والناس.. ومن هنا تظهر أهمية وظيفة الكنس بمفهومها السلبي.. من جهة أخرى.

هؤلاء اللصوص.. الذين يكنسون جيوب الناس.. يلوثون المجتمعات ويعفنونها، وذلك بخلق أمراض خطيرة تنخر وتهدد.. الواقع الإنساني والاجتماعي في كل زمان وفي كل مكان؟؟!

وهكذا، وبالاعتماد على المنطق الواضح/الفاضح وعلى التعبير المباشر، يمكن القول إن مجموعة قصص "العربة" لزفزاف، انطلقت في عمقها من الواقع المغربي، ووظفت في التعبير على ذلك، أسلوب العلاقات المتنوعة والمتعددة القائمة بين فئة وفئة إنسانية أخرى.. بين الإنسان والحيوان.. وبين الحيوان والحيوان وكذلك بين الإنسان والجمادات.. الخ. وبذلك استطاعت المجموعة أن تصور وتصف وتنتقد.. الواقع الإنساني والاجتماعي، المتحرك.. وأن تمثل بالفعل الصراع العلائقي القائم في واقع الناس.. كما يظهر ذلك واضحا، مثلا، في قصة: "النباش" ص.45 حيث يقول زفزاف: "جاء كلب ففزعت القطط بحكم الغريزة. لكنه لم يبال بالقطط ويبدو أنه شبعان ولذلك لم يلتفت للقطط ولا للقمامة. إلا أن رجلا يدفع عربة صغيرة، ركل القطط السمينة والهزيلة وفتش في القمامة".

هذه الإشكالية العلائقية تتبلور بشكل سافر ومفضوح.. في قصة "عندما يصير الرجل حمارا" ص.52 من نفس مجموعة العربة.. حيث أصبح الإنسان مثله مثل الحيوان.. يقوم بنفس الأعمال والمهام.. وكذلك في علاقة البلدان المسماة بالمتخلفة والبلدان المتقدمة.. كما جاء واضحا في قصة "جريمة أخلاقية ص.82: "واستمر الشاب المغربي الذي يلبس جلبابا صوفيا في إلحاحه غير أن الأمريكي دفعه بوهن ثم بقوة".




المصدر:
محمد زفزاف: العربة، منشورات عكاظ، 1993.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى