دراسات في التراث أبو حيان التوحيدي - رسالة في الغربة والغريب

“سألتني – رفق الله بك، وعطف على قلبك – أن أذكر لك الغريب ومِحَنهِ، وأصِفَ لك الغربة وعجائبها، وأمرَّ في أضعافِ ذلك بأسرارٍ لطيفة ومعانٍ شريفة، إمّا مُعَرِّضاً، وإمّا مُصَرِّحاً، وإمّا مُبْعِداً، وإمّا مقرباً. فكُنتُ على أن أجيبك إلى ذلك. ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك، وحائلاً دونك، ومُفرّقاً بيني وبينك.
وكيفَ أَخْفِضُ الكلام الآنَ وأرفعْ، وما الذي أقول وأصنعْ، وبماذا أصبر، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلاّت التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول:
إنّ الغريبَ بحيثُ *** ما حطّت ركائبهُ ذليلُ
ويدُ الغريبِ قصيرةٌ *** ولسانه أبداً كليل ُ
والناسُ ينصرُ بعضهم *** بعضاً وناصره قليلُ
يا هذا ! هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بُنِيَ بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه، وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ، وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ. إن نَطَقَ نطق حزنان منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيران مرتدعاً، وإن قَرُبَ قرب خاضعاً، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً، وإن ظَهَرَ ظهر ذليلاً، وإن توارى عليلاً، وإن طَلَبَ طلب واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه، وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛ وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكت خائباً؛ قد أكلهُ الخمول، ومَصّهُ الذبول، وحالفه النّحول، لا يتمنى إلاّ على بعض بني جِنسِهِ، حتى يُفْضي إليه بكامِناتِ نفسه، ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.
وقد قيل: الغريب من جَفاهُ الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرّقيب.. بل الغريب من نُودَيَ من قريب، بل الغريب من في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحقِّ نصيب.
يا هذا ! الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله، وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله.. يا هذا ! الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.
هذا وصفُ رجلٍ لَحِقَتْهُ الغربة، فتمنّى أهلاً يأْنسُ بهم، ووطناً يأوي إليه، وسكناً يتوادعُ عنده. فأما وصفُ الغريب الذي اكتنفتهُ الأحزان من كل جانب، واشْتَمْلَتْ عليه الأشجان من كلّ حاضرٍ وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقتْهُ الحَسَرَات على كل فائتٍ وآئب، وشتّتهُ الزمان والمكان من كل ثقةٍ ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطّتهُ بأيدي العواتب عن المراتب، فوصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشُلُّ عن بَجْسِهِ اللفظ، لأنه وصفُ الغريبِ الذي لا اسمَ له فيُذكر، ولا رسمَ لهُ فيُشْهَر، ولا طيَّ له فيُنشر، ولا عٌذرَ له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر.
هذا غريبٌ لم يتزحزح عن مَسْقِطِ رأسه، ولم يتزعزع عن مَهَبِّ أنفاسه. وأغربُ الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَداءِ من كان بعيداً في محل قربه.
يا هذا ! الغريب من إذا ذَكَرَ الحقَّ هُجِرْ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرْ. الغريب من إذا أَسْنَدَ كُذِّب، وإذا تَطَاهَرَ عُذِّب، الغريب من إذا إمتار لم يُمَر، وإذا قَعَدَ لم يُزَرْ. يا رحمتاً للغريب ! طالَ سفرهُ من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعَظُمَ عناؤهُ من غير جدوى !
الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقهُ الأسى والأَسَفْ، وإن كَتَمَ أكْمَدهُ الحُزْنُ واللَّهَفْ. الغريب من إذا أقبلَ لم يُوَسَّع له، وإذا أعرضَ لم يُسْئَلْ عنه. الغريب من إذا سَألَ لم يُعطَ، وإن سَكَتَ لم يُبدأ.. الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحبّ. اللهم إنا قد أصبحنا غُرَباءَ بين خلقك، فآنسنا في فَنائك. اللهم وأمسَينا مهجورين عندهم ، فَصِلْنا بِحَبائك.
يا هذا ! الغريب في الجملة كُلُّهُ حُرقه، وبعضهُ فُرقه، وليلة أَسَفْ، ونهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ.
الغريب من إذا دعا لم يُجَب، وإذا هابَ لم يُهب.. الغريب من فَجْعَتُهُ مُحْكَمَة، ولوعته مُضرِمة. الغريب من لِبْسَتُهُ خِرْقة، وأكْلتُهُ سِلْقه، وهجْعَتُهُ خَفْقة.



من كتابه ( الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى