شهادات خاصة مهدي عامل - حسين مروة.. الموقف والفكر

أرى في سيرة فكره سيرة نضاله، وفي السيرتين أراه يختطّ حياته ضد قوى القهر وأفكار القهر، منذ أن انطلق يافعاً يطلب علماً في النجف، إلى يوم استشهاده في بيروت بأيد مجرمة. مع التقدم تصنعه الثورة في الكتابة والسياسة كلن، مع تغيير العالم في يوميات العمر، وكان يرى في عقل الأحداث ضرورة أن تصير الحرية هواء الانسان. كان ما سوف يكون: شيوعياً حتى قبل أن ينتسب إلى حزبه.
طردته من أرض العراق قوات الرجعية والتبعية يوم ثار مع الثائرين على النظام، في كتابات يومية هي رصد للواقعات بعين الوجدان، وموقف سياسي منها. إنه موقف من الكلمة عنده قاصدة صائبة. إنه موقف مناضل. وهل من الضروري نعت المناضل بالسياسي لتمييزه من الكاتب او المفكر؟ والسياسة، بتعريفها الثوري، فعل تغيير. والثقافة أسسها. اما التاريخ، فيجري بحسب منطقه. لكنه منطق صراع ينتصر فيه من ينتصر له. لذا كان علم الثورة شرطا للثورة، فيها وبها يتوقعن، أعني يتحقق. بيد ان دونهما ألف عقبة وعائق، بالنضال وحده تتخطى، في طريق الكادحين حسين مروة هذا الكادح من المهد إلى اللحد. وبين المهد واللحد تاريخ كفاح هو تاريخ حياة بكاملها. حياته ام حياة شعبه؟ حياته ام حياة حزبه؟
أذكره في خمسينات تأميم القناة وخمسينات سقوط الملكية في العراق وما يشبه الديمقراطية في الشام، وفى خمسينات الحرب الاهلية في لبنان. اذكره في مجلسه. واثقا كان بالآخرين – لا بنفسه ـ، وصديقا لكل وافد. اذكره واتساءل: ما الذي كان يجذب الناس إليه؟ لعله شعاع الامل يلتمع في عينيه، دوما، برغم الشدائد. لعلها المحبة، وهي عنده فعل وفاء ونضال. اما الوفاء، فللقضية. وأما النضال، فمع الرفاق، نسغ حياته. هكذا كان يتكاثر. أليس جميلاً أن يكون الفرد أكثر من الفرد في كينونته ذاته؟ أذكره وأنجذب مع الآخرين إليه في حديث هادئ عن بلاد السوفيات، وعن أن النصر لنا في حركتنا الوطنية بقدر ما هو لنا في حركتنا الأممية، وعن أن المثقف له في الحركة الثورية موقع العين من الجسد. والعين ناقدة صادقة. تحاول وتحاور تتعلم من كل جديد ولا تكابر. أذكره في صفحات "الأخبار" وفي صفحات "الثقافة الوطنية")، يكتب ويساجل. ينقد ويؤكد. يتفانى في العمل في صمت.
باكراً حدد موقعه في حقل الكتابة وفى حقل السياسة، وألح، في حواره مع الآخرين، على ضرورة أن يكون للكاتب فيهما موقع، فكان عليه، كي يثبت ذلك أن يرى إليهما من موقعه فيهما الذي أعلنه، بالممارسة، دون إخفاء، إنه موقع مناضل. ذلك أن حقل الكتابة، كحقل السياسة، حقل صراع وتناقض فيه تختلف الأفكار باختلاف المواقع التي منها تنتج، والتي بينها تقوم. علاقات هي، بالتحديد، علاقات انتاج الافكار. لهذه المواقع طابع اجتماعي هو نفسه طابعها الطبقي، سواء أكانت مواقع فكرية ام سياسية. محكومٌ إذن هو الفكر بضرورة إنتاجه، في شتى ميادينه، في علاقات أيديولوجية محددة من الانتاج هي علاقات صراع تترابط بعلاقات سياسية تنعكس فيها، دون تماثل، في أشكال تختلف باختلاف الشروط التاريخية الخاصة بسيرورة الصراع الطبقي اما من يوهم نفسه والاخرين بانه يبتدع فكراً هو للفكر، وفنا هو للفن، أو أدباً منعتقاً من كل موقع، ومن شبكة علاقات الانتاج الفكرية بين المواقع، كأنه الفرد الإله الخالق المبدع، لا على مثال – ففعل خلقه هو المثال، لأنه الأنا في مطلقه –، فهو مخدوع مخادع. تكون الكتابة فاعلة بقدر ما تسهم في فضح الخدعة في وهمِ، بل في إيهام الايديولوجيات المسيطرة بسيطرة أنظمة الطبقات المسيطرة، وبإعادة الإعتبار إلى الواقعات في مجرى حركتها المادية إنها كتابة مناضلة. اما تلك التي تهيم، مثلاً، في حقل النقد الأدبي، بلا بوصلة - والبوصلة هي المنهج -، فهي كتابة مدّعية بأنها من خارج المواقع، وبأنها لهذا، الكتابة الموضوعية. لكنها، في واقعها الفعلي، الشكل المسيطر، في هذا الحقل، من الأيديولوجية المسيطرة. لذا، وجب النقد.
والنقد، بذهابه إلى الأساسي، يكون فاعلاً. والأساسي أن ممارسة النقد، في منهج، لا تنتج معرفة، بل تكرس الحقل الأدبي، بلا أفكاراً تتوارثها تلك الأيديولوجية المسيطرة. والمنهج يحدده، في نهاية التحليل، الموقع. فمن لا موقع له لا منهج له. (أو قل إن له موقع من يدّعي ألاّ موقع له، يتوارث عنه الأفكار بلا نقد) هكذا تصدرت قضية المنهج في الخمسينات حقل النقد الأدبي، فكان القائل بضرورة المنهج طليعياً في قوله، وكان قول هذا ممكناً لأنه جاء من موقع مناضل. هذه هي المعركة التي خاضها حسين مروة. ورفاق له تحت راية المنهج الواقعي. إنها معركة فكرية. لكنها، في حينها، معركة سياسية خيضت دفاعا عن مواقع الفكر المادي.
والحقيقة، إن اختيار هذا الحقل من حقول الصراع الطبقي لم يأتِ اعتباطا. فالهجوم على مواقع ذلك الفكر استهدف ما ظنّه خصومه أنه نقطة ضعفٍ فيه، ما لبث أن استحالت، في ممارسات متنوعة من النقد في ضوء المنهج الواقعي، مرتكزاً لهجوم مضاد تأكدت فيه طليعية الفكر المادي في تأكيده ضرورة المنهج في ممارسة النقد الأدبي، وفي ربطه المنهج لموقع النظر في النص. أقول: هذه الممارسة هي نضال فكري. وأقول: هذا النضال ذو طابع النظرية المتميز سياسي متقدم، حتى لو كان مبتدئاً، متعثراً، مفتقداً أدواته النظرية المتميزة. فضيلته إقدامه، منفرداً، أو شبه منفرد، على مواقع أيديولوجية للخصم، عاتية بالتوارث، ظلت ربما، متماسكة، بقوة التقليد، فلم تتهافت، برغم إخضاعه لها للنقد، لكنه تجاسر، حيث رأى أن عليه أن يتجاسر، فأثبت أنه قادر على العراك من موقعه. هل كان سيمارس النقد الأدبي في أواسط الثمانينات كما مارسه في أواسط الخمسينات، لو كان عليه أن يستعيد قديمه، أو أن يقدم على جديد؟ سؤال طرحه حسين مروة على نفسه في مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه "دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي"، فكان جوابه الصريح: لا.
كان سيكتب، على حد تعبيره، "النقد بطريقة جديدة عن الطريقة التي كتبت بها فصوله، لكن الاختلاف لن يمس واضيف: ولن يمس المنهج ذاته".
وأضيف: ولن يمسّ، بالطبع، الموقع الذي منه ينطلق.
راسخاً كان في فكره، منذ أن ولد إلى الوعي الذي سيكون وعيه. وفي وصيته إلى أمام المؤتمر الخامس للحزب، عاد يؤكد ما انطلق منه: ضرورة أن تكون العلاقة عضوية بين الفكر والعمل، بين المعرفة والثورة. خاض معركة الواقعية في حقل النقد الأدبي، وسيخوض معركة المادية في حقل الدراسات التراثية. وكان في كل آن يخوض معركة الحرية والديمقراطية من أجل التقدم والاشتراكية. أنظر فى سيرته فأرى خطاً من النضال هو واحد فى كل حقوله صراع يستديم، به التاريخ يصنع، والثائرون ورثة الثائرين في كل عصر يستشرفون الآتي، يستكشفون الماضي، وفي الحاضر يستنبطون الحياة بروميثيوسيون هم، يتحدون المستحيل، ومنه يستخرجون الممكن بضرورته.
عقلانيون هم، متسقون في عقلانيتهم. لكن العقل عندهم ليس واحداً، بل متعدد، متخالف حتى في الدين، ومنه الإسلام. وهل يستوي عقل الغيبيين وعقل الماديين؟ هل يستوي عقل المستغِلين وعقل المستغَلين؟ عقل الظلم وعقل العدالة؟ عقل العلم وعقل الجهالة؟ للظلاميين السلفيين العقل تسويغ لما مضى وإعلان له بإعلان قدسيته ورفعه إلى مطلقٍ به يستحيل نموذجاً لآتٍ هو تكرار لأوله. أما للمتنورين، فالعقل عقل تغيير القائم بسلطة نظامه، وإنتاج القادم بضرورة منطقة، في صراع يأخذ في كل مرحلة شكلاً يختلف عنه فى المرحلة السابقة أو اللاحقة، لكنه إياه في كل مرحلة. صراع بين جديد يولد بالقسر، وقديم يتقادم. هكذا ينجلي التراث تراثات تتصارع في واقعها الغابر نفسه بصراع التيارات الفكرية والقوى الاجتماعية الراهنة. لا مبالغة في القول إن الصراع بينها في واقعها ذاك محدد بواقع هذا الصراع الراهن، او قل للدقة، إنه مضاعف التحديد به. فمن الباحثين من يرى في التراث نبراسا يستضيء به الحاضر في ايجاد حلول لمعضلاته، كأنه عاجز بذاته عن ايجادها وما عجزه الموهوم هذا سوى تأكيد لعجز العقل عن الوصول بذاته إلى معرفة ليست ممكنة في الفكر السلفي إلا بالدين، بما هو شرع، أو على حد تعبير الغزالي، بنور يقذفه الله في الصدر هو مفتاح المعارف كلها. ومن الباحثين في التراث من يرى ضرورة إحيائه أو استلهامه، عملا بقوله تعالى: " يحيى العظام وهي رميم." ومنهم من يرفضه بالقطع، ويدعو إلى وأده.
أي موقف هو الموقف العلمي من التراث؟ أي موقف هو موقف الفكر المادي المناضل؟
لقد تحددت مشكليّة التراث، وما تزال تتحدد عند البعض، بل عند الكثيرين، في تلك الصيغة الانتقائية النفعية التي هي في اتساق كليّ مع الفكر البرجوازي المسيطر. وإذا بالسؤال يطرح في شكل آخر، وعلى أرضٍ معرفية مختلفة. ليس التراث لإحيائه، أو وأده، أو استلهامه. إنه موضوع معرفة، من حيث هو، بالتحديد، ماضٍ مضى، لا وجود له في الحاضر إلا في آثار منه هي مادة أولى في سيرورة انتاج معرفته. ومعرفته تختلف باختلاف أدوات انتاجها، وباختلاف موقع الفكر الذي ينتجها في حقلٍ معرفي محدَّد هو حقل علاقات انتاجها. لئن كان التراث في واقعه المادي الغابر حقلا لصراع طبقي كان يظهر في شكله الرئيسي المسيطر في الفكر وفي السياسة مظهر الصراع الديني، فهو ففي وفى واقعه المعرفي الراهن أيضاً حقل لصراع طبقي آخر لعله أشد احتداما، منً حيث هو، بالضبط، صراع حول السلطة في الفكر وفي السياسة، ومن حيث هو، تالياً، في وجهه الرئيسي، صراع ضد من غلب في الأول فكتب التاريخ تأييداً لغلبته. وما هذا هو التاريخ، بل تأويل له من موقع الطبقات المسيطرة التي تسعى فيه، حتى في الحاضر، إلى تأبيد سيطرتها بتعميمها على التاريخ في ماضيه ومستقبله. أيكون التراث بعد هذا واحداً؟ أيكون محايداً، وهو الذي ينحاز دوما إلى من ينحاز إليه، في الشكل نفسه الذي فيه ينحاز إليه. وهل التراث في فكر الظلاميين أو السلفيين ما هو في فكر المتنورين أو الماديين؟ إنه محكوم بضرورة اختلافه، بينه في الأول، وبينه في الآخر. لقد وصلنا التراث - والكلام عليه يقتصر على الثقافي منه بخاصة – عبر فكر مسيطر تملكه بمعرفة ليست معرفة، بل إسقاط لهذا عليه، فأتى على صورته، رجعياً بفكر الرجعية، غيبياً بغيبيته، فانحصر فيه، كأنه الفكر المطلق، واحداً يتكرر في تكرار الماضي وتوق الحاضر إليه توقه إلى نموذجه.
بنقد هذا الفكر وتراثه تبتدئ معرفة التراث. ومن هذا النقد ابتدأ حسين مروة، من موقعه في الحاضر كمناضل، بحثاً في التراث هو محاولة في إنتاج معرفته. والسؤال هو التالي: هل الموقع ذاك ضروري لإنتاج هذه المعرفة ؟ ألا يصح اعتراض المعترضين على منهج هذا البحث بقولهم إن التراث لا يُعرف إلا بفكر ينبثق عنه هو فكره؟ كالإسلام لا يُفهم إلا بالإسلام ومن موقع نظر الاسلام إلى ذاته، في تماثله بذاته في المطلق؟ إنه اعتراض على المنهج في مبدئه، قبل ان يكون اعتراضاً على البحث في آثاره. لذا وجب الحسم في أمر المنهج أولاً، ثم في أمر البحث وآثاره، تالياً. وعليه أقول: إن المعرفة التي ينتجها فكر محكوم في مقاربته التراث بمنطق التماثل ليست في حقيقتها الفعلية معرفة بقدر ما هي صورة من هذا الفكر تنعكس فى مرآة ذاته، من موقعه في حاضر هو الماضي إياه، واحداً يتكرر بسلطته.
بفكر مادي تاريخي تنتج معرفة التراث، لأنه فكر الاختلاف نفسه والإختلاف قائم بين التراث والحاضر، وهـو بماديته تاريخي، مادي بتاريخيته، ومعرفته شرط لمعرفة الإثنين، تبدأ بإقامة الحد المعرفي الفاصل بينهما، من موقع يسمح بإقامته.


* *المصدر: مجلة الطريق، عدد حزيران 1988

(كلمة كان قد أعدها الرفيق الشهيد مهدي عامل لإلقائها في الندوة الدراسية التي قررها المجلس القومي للثقافة العربية بعد شهرين من اغتيال الرفيق الشهيد حسين مروة، تم تأجيل الندوة لاستكمال شروط اعدادها، وخلال فترة التأجيل اغتالت الأيدي المجرمة مهدي عامل، ألقيت الكلمة عنه في الجلسات الافتتاحية للندوة التي انعقدت في بعقلين بين 19 و22 شباط 1988)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى