محمد حيّاوي - صولو.. خريف العازف.. قصة قصيرة

ليس من عادتي أن أكترث كثيرًا لما يحصل معي من مُنغّصات يوميّة في السنوات الأخيرة ما دمتُ أملك وعيي، وأستمتعُ بمباهج الحياة الصغيرة، وصحّتي على ما يرام؛ وما دمتُ أستطيع المشيَ، والعزفَ، واحتساءَ قهوة الصباح، وتَتبُّعَ العصافير، واستنشاقَ رائحة البحر التي تُنعش روحي. حتّى وأنا على أعتاب الثمانين، لم أكن لأبالي في الحقيقة. لكنّ ما يؤلمني هذه المرّة، بحقّ، هو مرضُ لينا المفاجئ، وذلك السعالُ اللعينُ الذي يقوّض صدرَها منذ أيام. لولا تأخّر طارق في إرسال الحوالة لاشتريتُ لها علاجًا من الصيدليّة التي على الناصية، حيث أعزف يوميًّا. لا أدري، رُبّما نسي الحوالة في زحمة مشاغله. أعانه الله في غربته!

ــــ خذ الشالَ معك يا عزيزي. البرد قارص هذا اليوم.

وبيدها الراجفة أحكمتْ لفَّ الشال الصوفيّ حول عنقي. يا إلهي كم ذَوَتْ وشاخت في الأيام الأخيرة!

ــــ مُرّ في طريقك على مكتب البريد. ربّما تكون الحوالة قد وصلت. هل تظنّه قد نسي إرسالها؟

ــــ لا أدري. مشاغله كثيرة كما تعرفين.

راحت تمسح حقيبةَ الكمان الجلديّة بعناية فائقة، كعادتها كلّ يوم قبل أن أخرج. اعتمرتُ قبّعتي وحملتُ الحقيبة وقبّلتها ومضيت. على السلّم فكّرتُ بالسنين الماضية، عندما كانت تجلس أمام البيانو وتعزف كالملاك، فتطير الفراشاتُ من حولها، وتُغرّد البلابلُ على شجرة الحور الكبيرة التي كانت تتوسّط معهدَ الموسيقى. لكنّها تهدّمًت الآن، منذ رحيل ولدها الوحيد طارق إلى فرنسا، ولم يعد مبلغُ التقاعد الضئيل الذي أتقاضاه يكفي لسدّ حاجاتنا اليوميّة.

عندما بلغتُ الشارع سمعتُها تسعل بحشرجةٍ وألم، فاعتُصر قلبي. علبةُ دواء السعال بعشرة آلاف ليرة! لو قيّض لي جمعُ هذا المبلغ اليوم فلن أشتري أيّ شيء آخر؛ سأهرع إلى تلك الصيدلية وأشتري الدواء. سأبذل جهدي في العزف. ربّما سأعزف مقطوعات خفيفة قد يحبّها المارّةُ أكثر. سأبتعد عن شوبان وفاغنر هذه المرّة. لكنْ ماذا سأفعل بتلك الفتاة المجنونة التي تأتي كلّ يوم، وتجلس قرابة الساعة أمامي وهي تسمع "بحيرة البجع،" قبل أن تلقي ورقةَ الألف ليرة في القبّعة وتمضي؟

قد لا تأتي اليوم. لكنْ إنْ أتت فسأعزفُ لها تشايكوفسكي مضطرًّا لأنني لا أقوى على حزنها. فتلك الفتاة تحوّلتْ في الأسابيع الأخيرة إلى ما يشبه مرهمًا لوجعي. حضورُها البوهيميّ يمنحني بعض السعادة والراحة النفسيّة، خصوصًا عندما تجلس على الأرض، وتطوي ساقيْها، وتركن كوعيْها إلى ركبتيها، وتحضن رأسَها وهي تصغي بخشوع، ساكنةً مثلَ تمثال حجريّ، لا تعبأ بالمارّة وتطفّلاتهم أبدًا.

من أين تأتي؟ وإلى أين تذهب؟ أهي طالبةُ موسيقى، أمْ راقصةُ باليه؟ شكلها النحيف، وجسدها الصغير، يُذكّرانني بلينا في شبابها. لكنّ تلك الفتاة مُتحرّرة قليلًا، ترتدي دائمًا ثوبًا قطنيًّا قصيرًا، وحِذاءً رياضيًّا برقبة عالية يشبه أحذيةَ الجنود. عيناها؟ لا أدري. خُيّل إليّ من لون بشرتها الحنطيّة أنّهما سوداوان. ليتها تقترب لأراها عن كثب؛ فنظري الكليل لا يسعفني على التعرّف إلى ملامحها وهي تجلس على مبعدة ثلاثة أمتار أو أربعة. تأتي في موعدها دائمًا، ونادرًا ما تتأخّر. هذه المرّة، عندما تأتي، سأحرص على النظر في عينيها، ولا سيّما حين تقترب لترمي ورقة الألف ليرة في القُبّعة.

ما إنْ رآني موظّفُ البريد من بعيد حتّى أشار إليّ بحركة مفادُها أنّ الحوالة لم تصل اليوم أيضًا. حسنًا، في الطريق إلى ناصية الشارع، حيث مكاني المعتاد، مررتُ بالصيدليّة. كانت البائعة الشابّة تقرأ في كتاب ما، وحولها المئاتُ من علب دواء السعال. أتخيّل الآن حشرجةَ لينا وهي تسعل ذلك السعالَ الجافّ الذي يُمزّق قصبتَها الهوائيّة. تلك البائعة في الداخل، هل تشعر بالسأم لقلّة الزبائن؟ هل تعيش قصّة حُبّ وتنتظر مكالمةً من حبيبها؟ ماذا لو دخلتُ وعزفتُ لها طوال اليوم مقابل علبة دواء سعالٍ واحدة؟

النهار أوشك أن ينتصف. وساقاي تيبّستا ولم أعد أقوى على الوقوف. حسنًا لأعزف متقرفصًا وأنا أسند ظهري إلى الجدار. القُبّعة؟ أرى ورقتيْ ألف ليرة من مكاني: واحدةً رماها رجل بدين مرّ من دون أن يصغي إلى موسيقاي، كما لو كنت مُتسوّلًا؛ والثانية من فتاة صغيرة أرسلتْها أمُّها الحامل من بعيد لتضعها في القُبّعة بعد أن وقفت تصغي إلى الموسيقى قليلًا وهي تحتضن بطنها.

شعرتُ بيدي الأخرى تتيبّس، وتكاد أصابعي ألّا تتحكّم بأوتار الكمان. رأسي ثقل جدًّا، ونظري بدأ يتشوّش. عزفتُ حتّى الآن الكثير من المقطوعات الراقصة، لكنْ "هالبنت يلّي بيتها فوق الطريق حمّلتني اليوم لعيونك سلام" جذبتْ بعضَ الصبايا والشبّان، فشكّلوا حلقة صغيرة، وراحوا يردّدون الأغنية مع صوت الموسيقى. وعندما انتهيتُ، جمعوا ما في جيوبهم، ورموْه في القُبّعة التي لم يصل المبلغ فيها، حتّى اللحظة، سوى إلى أربعة آلاف ليرة.

كم بقي من النهار يا ترى؟ هل حلّ المساء أم أنّ نظري هو الذي أفل من التعب؟ لا أدري... لكنّني لن أعود اليوم حتّى أجمع ثمنَ دواء السعال اللعين.

فجأةً، رأيتُها قادمةً من بعيد، بمشيتها التي تشبه مشيةَ جنديّ. تبدو نحيلةً وطويلةً اليوم. تقترب مني مُبتسمة. تحمل قدحًا ورقيًّا فيه قهوة. لم تجلس لتصغي هذه المرّة. استمرّت بالتقدّم نحوي حتّى بلغت القبّعة. الآن أستطيع أن أرى عينيها. ما أجملهما! بالضبط مثلما توقّعت: سوداوان واسعتان برموش طويلة. أنفها دقيق، ذو حليَةٍ فضّيّة صغيرة، وشعرها أسود مقصوص يؤطّر وجهها الأسمر الصغير. جلستْ أمامي وابتسامتُها الساحرة مرسومة على محيّاها. ربّتتْ على ركبتي، ثمّ ارتشفت قليلًا من قدح القهوة قبل أن تقدّمَه إليّ. حملتُه بيد راجفة، وقرّبته إلى شفتيّ. أنعشتني الرائحةُ الذكيّة. ارتشفتُ منه قليلًا وأعدتُه إليها، لكنّها ردّت يدي برفق وهي تقول بصوت رقيق يشبه صوت الموسيقى:

ــــ إنّه لك. أشربه.

وراحت تخلع سترتَها الرياضيّة، فبان ثوبُها القطنيُّ القصير الذي يكشف عن أعلى صدرها وزنديها. ثمّ انحنت وفكّت رباط حذائها ذي الرقبة الطويلة، وخلعته. وضعت السترةَ والحذاءَ وحقيبتها النسيجيّة قربي قبل أن تنحني عليّ وتهمس:

ــــ تشايكوفسكي!

شممتُ عطرَها الهادئ الذي اجتاحني، ورحتُ أعزف تشايكوفسكي، حتّى شعرتُ كأنّ البجع كلّه يحلّق في سماء بيروت، والماء يقطر من أجنحته، فيما هي ترقص حافيةً. خُيّل إليّ أنّها تطير فوق الأرض وتكاد لا تلامسها، والفراشات تدور حولها، مع دورانها الساحر، محاولةً اللحاقَ بها. كانت تتلوّى وتتقوّس، ثمَّ تفرد ذراعيْها في الهواء، وتحلّق بحركاتٍ متوالية وتناسقٍ مذهل.

تجمّع الناس من حولنا مأسورين بجمال رقصها الأخّاذ، وعذوبةِ صوت الموسيقى. وراحوا يلقون بالليرات في القُبّعة، التي امتلأتْ، بل فاضت، بالأوراق النقديّة من حولها. كنتُ لا أشعر بيدي من فرط الحماس. وبدا الكمانُ قطعةً من يدي، وأوتارُه مثل شرايين مشدودة. بدت السماء قريبة جدًا، وكانت رائحة البحر مُسكرة.

فجأةً شعرتُ بكفّ ثقيلة تُربّت على كتفي. كانت يد صديقي عامل النظافة العجوز:

ــــ استيقظْ يا صديقي. يجب أن تعود إلى المنزل. لقد حلّ المساء.

نظرتُ إلى القُبّعة؛ ليس فيها إلّا الأربعة آلاف ليرة. والصيدلية التي على الناصية مغلقة، ومكتب البريد كذلك. ولم أعد أسمع شيئًا من حولي، سوى سعالِ لينا الذي بدا يمزّق صدرَها الحبيب في تلك اللحظات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى