ليانة بدر - جارة

في ذلك المنزل الضيق... وحيث حواف السرير الخشبي المصنوع من هياكل صناديق الأسلحة الفارغة تنغرز عميقا في جلد ساقي كلما تحركت من طرف إلى طرف. صممت على أن لا تهزمني المسافة الضيقة.

ففي مدينة التاريخ تلك, حيث المتاحف الكثيرة تنتشر على ضفتي النهر ذي الفروع السبعة, ولفرط العزلة التي هبطت علينا بعد أن لفظنا البحر بعيدا عن أسوار صور وصيدون, اعتدت أن أفك إسار وحشتي بزيارة مئات الأنصاب والتماثيل التي ترقد بصمت وراحة في قاعات عرضها الباردة. وبين هؤلاء أغرمت بإحدى سيدات المعبد من القرن الثاني قبل الميلاد, بعد أن بهرتني بقامتها الرشيقة, وجسمها المتأهب للرقص كل لحظة, وليونة إحساسها المتجسد في تقاسيم وجهها, وخفة قدمها اليسرى الممدودة أبدا إلى الأمام استعدادا للنزول إلى الحلبة, وكحل عينيها المتأملتين أبدا.

قلت لنفسي: إذا كانت " أورنينا " ما زالت على تصميمها الحار لمعانقة اللحظة التالية رغم جمودها التمثالي, فما بالك بنا نحن?

وهكذا صممت على أن لا تهزمني المساحة الضيقة التي فرضت عليَّ. وصرت أقف كل صباح في المسافة الصغيرة بين الخزانة والسرير, ألعب تمارين رياضية بسيطة, وأجعلها معيارا للتغلب على صعوبات ذلك النهار.

ثمة شقة غير مسكونة في مواجهتنا كان فراغها يكفيني عناء النظرات والأبصار. وعندما انتبهت إلى علائم حركة فيها ألصقت على نافذتي بدبابيس مكتبية إيشاربا من " الكريب جورجيت " كي لا يحتجز النور نهائيا عن الدخول, ولا سيما أن الشباك كان المجال الحيوي الوحيد للتهوية.

في ذلك اليوم الذي أطل به عامل قصارة وطلاء من شرفة بيت الجيران, جافاني النوم. ليس بسبب انكشاف الجزء الاستراتيجي الوحيد من الغرفة الذي يتيح لي شيئا من الحركة المقننة. ولكن لسبب أبسط وأشد مدعاة للقلق. فقد كان العامل يرتدي لباسا عسكريا. وفي هذا مئات الاحتمالات المنذرة في بلد مثل هذا. فلن أنسى يوم قعدت على الكرسي في الباص ولم أقبل التزحزح من مكاني بناء على إشارة مجند طالبني بالقيام كي يجلس. امتنعت عن التحرك, وأجبته بإصرار أنني الأَوْلى بالمكان بسبب أسبقيتي, فأدار وجهه, وولّى عني. ولن أنسى أولئك النسوة اللواتي شدهن بجرأتي, واندفعن إلى تهنئتي في محطة الباص على ما وجدت فيه تصرفا اعتياديا. بعدها أتيح لي مشاهدة الكثير مما يشكل لائحة احتمالات بالأخطار الممكنة لوجود عامل يرتدي لباسا كاكيا في الشقة المقابلة.

صرت أقوم بتماريني في الظلام, وأحرص في الليل على عدم إضاءة الغرفة. وأترقب معظم الوقت ساكني البيت المواجه بانتظار انتهاء إصلاحاته لأكشف ما يساعدني على تقييم الأوضاع بشكل دقيق. وأثناء هذا كله عدت إلى قرض أظافري كما كنت أفعل في طفولتي أثناء ترقبي ظهور " العامورة " تحت قناطر مدينتنا.

عندما استقروا في البيت المقابل, لم يبينوا قط. فتهيأ لي أنهم يخفون أطيافهم كي تقتنص المزيد مما تريد معرفته عن سكان بنايتنا. وهكذا صرت حريصة على الابتعاد ما وسعني عن الغرفة, ناهيك بالنافذة التي لم تعد نافذة إلا قبل إطلالة الفجر أو مع حلول الغسق.

وفي أحد الأيام, ويا له من يوم, استطعت أن ألمح أثناء مطالعتي الدؤوبة, وترصدى الحذر للأشباح في شرفة البيت المسكون حديثا, امرأة في مثل قامتي, تضع إيشاربا, وتميل برأسها إلى خلف الحيطان وهي تبصبص بخوف وارتباك صوب شباك غرفتنا, إلى بنايتنا المشيدة مقابل شرفتهم بالضبط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى