سالم اكويندي - المسرح المغربي... الرهان على الفرجات وتأثيرها على الوجدان الشعبي 2/2

إن الممارسة الحديثة للمسرح المغربي والتي يعتبرها المؤرخون للمسرح المغربي بدايات له والمحددة في عشرينات القرن الماضي وتحديدا سنة 1923 ليست إلا امتدادا طبيعيا للممارسات المسرحية المغربية التي رأينا ترسخها وتتبعنا صيرورتها حسب ما فرضته ظروف التواجد الاجتماعي للناس وفي انخراطها التام مع تشكل وتكون المجتمع المغربي في انبنائية نسق نظامه الثقافي العام، إذ نجد هذا واضحا في تعاطي مكونات هذا المجتمع خاصة أطره المعرفية التي كانت تتحمل المسؤولية لانتظام هذه الفرجة حيث سيحضر في صناعة هذه الفرجة وتلقيها الفقيه والصانع التقليدي ومقدم الطائفة ومريدها ومن خلال هؤلاء سيكون حضور المؤسسات التي ينتمون إليها مثلا جامعة القرويين بفاس وجامعة ابن يوسف بمراكش وأمناء الحناطي بمختلف أنواعها مثلا الذباغة والدرازة ..إضافة الى القيمين على الزوايا والأضرحة من شيوخ الطرق الصوفية، ورجال المخزن للسلطة المركزية سواء كممثلين لهذه السلطة أو حسب انتمائهم لمركزية وموقع الفقهاء أو منتمين للزوايا والطوائف بحيث سيلعب هذا الاندماج القوي في دواليب السلطة / المخزن والانتماء الاجتماعي لأصولهم الطبقية دورا قويا في استمرارا هذه الممارسة المسرحية وبالتالي التعيير عن امتدادها وسريان فعلها في انبناء النسق الثقافي والنظام العام كما سيزيدها قوة ورسوخا الحضور والتواجد الاستعماري بالبلاد، ومن خلال فعلها الثقافي هذا ستعمل الأطر على ربط الممارسة المسرحية بالسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ستكون عليه البلاد كقوة للمقاومة خاصة وأن وشائج الصلة ستتدعم بينها وبين المقاومة في المشرق لنفس التواجد الاستعماري الذي أصبحت عليه بلدانها في بدايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إن السمة الاجتماعية والثقافية والسياسية هي عنوان هذه المرحلة في الممارسة المسرحية كما أن سمة الامتداد التي أشرنا إليها سيجعلها ممارسة ثقافية ذات حدين : حد المقاومة الداخلية والذي لعبته هذه الممارسة في رفع مظالم الناس ومطالبهم أمام ممثلي السلطة والأعيان بانخراطهم فيها وحد تحويلها كممارسة ثقافية لمقاومة خارجية ضد التواجد الاستعماري الأجنبي مع ملاحظة تنامي الوعي بهذا الدور الجديد لهذه الممارسة في التقائها وتواصلها مع ما يتم في المشرق العربي وهذا في نظرنا هو السبب الذي سيجعل الاهتمام والإنصات والاحتفاء بالفرجة بالفرق المسرحية الوافدة على المغرب من المشرق كما أن دور الفقهاء في هذه الحركة الثقافية سيكون بارزا وواضحا لأنها دعوة جهادية تعتمد التوعية ضد الوجود الاستعماري وضرورة مقاومته، ومن جهة ثانية نشر الثقافة كما أن الموقع الجغرافي للمغرب سيجعله جديرا بهذه المهمة، فضلا عن كون المغرب من البلدان العربية التي تأخر استعمارها نظرا لوجود نزعة المقاومة لدى ساكنتها والتي لا يمكنها بفعل هذه الممارسة الثقافية المتجذرة فيه منذ تكونه وتشكله تاريخيا وكما أسلفنا من هذا البعد الثقافي الذي كان يعد مؤسسا للاجتماعي والسياسي فيه حيث نجد سمة التأخر في استعماره كانت سمة كذلك حاضرة في تأخر دخول الإسلام له، غير أن تشبع المغاربة بقيم الإسلام وقيم الثقافة العربية سيجعل منه حصنا منيعا ومنطلقا لإعادة انتشار هذه القيم وهو ما سنلاحظه في فتح الأندلس والاندماج فيه والامتداد في افريقيا .
وما نريد التأكيد عليه في هذا المقام هو الانبثاق العضوي للممارسة المسرحية وانتظام فرجاتها وتلقيها كآلية في الوعي الاجتماعي لدى المغاربة منذ نشأة وتكون المجتمع وانخراط الفعل السياسي فيها لإعلان دوله بمختلف أنماط الحكم فيها . الشيء الذي لا يدعو للغرابة في احتضان الممارسة المسرحية العربية الوافدة عليه من المشرق العربي والانفتاح بالتالي على الممارسة المسرحية الغربية التي استقدمها المستعمر.
إن دلالة وحضور أسماء بعض الفقهاء في الممارسة المسرحية الحديثة في المغرب أمثال محمد القري، والمهدي المنيعي وعبد الواحد الشاوي ليؤكد ما ذهبنا إليه في تحليلنا هذا، خاصة وأن بروز هذه الأسماء في هذه الممارسة جاء في لحظة التقاء بين امتدادات هذه الممارسة المسرحية وفي شكلها التقليدي المحلي وانسجامها مع طبيعة انبثاقها كوعي فني ثقافي سياسي تعبيرا على طبيعة تشكل وتكون المجتمع المغربي إنذاك حيث كانت هذه الممارسة ووفق طبيعتها المشار إليها بالتقليدية تعبيرا آخر عن الوعي بالذات والإفصاح عن هذا الوعي بعفوية وتلقائية للانخراط في شرط وجودها الاجتماعي ومن الطبيعي أن تكون هذه الممارسة المسرحية والتي وسمناها بالعفوية والتلقائية ممهدا لما سيلي في تطور هذا الوجود والتفاعل معه بكل ما تحمله من جديد في إطار هذه الممارسة وهو ما جاءت الأسماء المذكورة للتعبير عنه، والتعبير في نفس الوقت على أن الممارسة المسرحية المغربية كانت موجودة كما سبق وأوضحنا ذلك، علما بأن الخلفية الفكرية التي تحرك في إطارها هؤلاء الفقهاء كانت خلفية سياسية نظرا لانتمائهم للحزب الشيوعي الفرنسي وهو الشيء الذي سيحذوه فقهاء وعلماء آخرين بالانخراط في الممارسة المسرحية والدفاع عن شرعيتها لأنهم كذلك ينزعون في ذلك منزعا سياسيا الشيء الذي سيجعل الممارسة المسرحية المغربية تنخرط في العمل السياسي ونتيجة لهذه العلاقة في وجود وانبثاق الممارسة المسرحية المغربية من طبيعة التكون الاجتماعي وتشكله على أرض الواقع بمختلف ألوان طبيعته السياسية وحسب الدول التي أنتجها هذا الواقع بحيث لم يكن السياسي بداية الأمر هو المتحكم في وجود هذه الممارسة بل كانت هي المحدد له مما يجعل البعد الثقافي حاضرا وسابقا للوجود السياسي عكس ما أصبحت عليه الممارسة حاليا، إذ يمكننا القول إن وجود المغرب الثقافي والفني والمسرحي كان هو الوجود الأول، عكس ما نجده لدى شعوب أخرى خاصة في المجتمع اليوناني والذي يعتبر جينالوجيا هو أب ومنطلق الممارسة المسرحية لدى الغرب، إن هذا الوضع في تكون وانبثاق الممارسة المسرحية المغربية وفي عودة استئنافها كامتداد للممارسة المسرحية المغربية الحديثة ومن نفس الأطر المعرفية والمؤسسات الثقافية والفنية في نسق النظام الثقافي العام هو ما سيعطيها الريادة والسبق في الثقافة المغربية الحديثة حيث سبق لنا في دراسات أخرى أن نعتنا هذا السبق والحضور القوي للممارسة المسرحية المغربية بأنها هي رأس رمح الثقافة الوطنية وهذا ما نجده وبوضوح قوي طيلة عقود القرن الماضي وابتداء من عشرينياته.
إن النموذج الغربي في المسرح الفرنسي كما تعرفنا عليه في التجربة المسرحية المغربية لم يجد سنده لدينا إلا فيما عرفه سياق هذه الممارسة المترسخة حيث كان هدفه التحديث وعصرنة المجتمع المغربي انطلاقا مما هو موجود عند المغاربة إذ يشير أندريه فوازان الى أن المغاربة يمتلكون حسا مسرحيا من خلال مرونة أجسادهم وقدرتهم على التقمص ولعب مجموعة من الأدوار الشيء الذي جعله يركز في تداريبه المسرحية المقامة لهم على تنظيم الفضاء وكيفية ملئه، وهكذا نجده يعتمد الجانب التقني أكثر، فضلا عن كون مجموعة من المسرحيين المغاربة كانوا قد مهدوا الطريق بالممارسة المسرحية المعهودة لدى المغاربة على إشاعة فكر تحرري وتنويري انطلاقا من مواقعهم الاجتماعية كفقهاء وعندما انخرطوا في هذه الممارسة مشبعين بالفكر الاشتراكي نظرا لانخراطهم في الحزب الشيوعي الفرنسي أمثال محمد القري والمهدي المنيعي وعبد الواحد الشاوي وقد ساعدهم على خوض التجربة بنجاح كون الفقهاء كانوا من قبل مساهمين في هذه الممارسة المسرحية كما سبقت الإشارة الى ذلك، كما أن الفرق المسرحية الوافدة على المغرب من المشرق جاءت داعمة لتجربة هؤلاء الفقهاء ولكونها جاءت محملة بمثل هذه الأفكار وممارستها في المسرح انطلاقا من بدايات مارون النقاش التي استلهمها من الغرب ويوسف وهبي وزكي طليمات وأبو خليل قباني وهي وإن كانت تعبر عن هذا الحس الغربي فإنها لم تخرج عن كونها نموذجا مسرحيا يعبر عن التجربة الميدانية الأولى للأستاذ لطفي السيد وتلميذه طه حسين فيما بعد، ولم تكن الروح المشبعة بها إلا من بنات هذه الأفكار، ومن تبعات ذلك نجد مبادرة رد الفعل ورادة فيها ضد النموذج الغربي رغم أنها لم تخرج من صيغته الفنية وأشكالها التعبيرية في الأداء نتيجة للاحتكاك والتمرين الذي خضعت له والى الحد الذي جعل الكثيرين من المنظرين للمسرح العربي يعتبرون هذا الفن فنا دخيلا على ثقافتنا في حين نجد أننا في توجهات مسرحيينا من وجهة نظر أخرى قد توجهوا ومن داخل نفس التجربة اهتموا بالرجوع الى الحكايات : ألف ليلة وليلة والسامر والحكواتي وحفلات الزار وهنا سيكون ليعقوب صنوع وأبو خليل قباني الريادة في مزج هذه المسرحية بما أمكنهم الاستفادة منه في الغرب على المستوى التقني وأنهم لم يعملوا على تعريب المسرح العربي كما ذهب الى ذلك بعض مسرحيينا وإنما قاموا بما أفصح عنه الطيب الصديقي في توجيه جان فيلار عندما طلب منه الرجوع الى بلاده فيما تختزنه ثقافته كما أن حضور المسرح الغربي لا يعني بالضرورة أنه مسرح النموذج الأوحد كما يظهر لدى البعض، بل إنه مسارح على حد تعبير برناردورت،وهنا نتساءل كيف لمسرح بالجمع أن يعبر عن هموم وتطلعات طبقات اجتماعية غربية أن يجعلنا نختصر تجربتنا الضاربة العمق في ممارستنا في خندق هذا النموذج الذي يريدونه مسرحا بالمفرد، إن صيغة المسرح بالمغرب لم تكن نمطا من أنماط آليات الاستذماج الاجتماعي ضمن مفهوم الثقافة السائدة وهذا لا يتأتى إلا في مركزية السلطة وتمركزها مثلما تعرفنا عليه في تجربة الممارسة المسرحية المغربية والتي تبقى مرتبطة بفترات محددة تشهد على هذا التمركز وهو ما قام به أرسطو بعد مائة سنة على الممارسة المسرحية اليونانية للتقعيد لمفهوم الاندماج الاجتماعي فيما عرفه مجتمعه من تحول سياسي وكأنه سن نموذجا لتراجيدية التي هي بمثابة نظام للإكراه الاجتماعي وبالشكل الذي يوضحه أوغستو بوال في حين نجد تماهي الممارسة المسرحية المغربية ومنها العربية مع نبض الوجدان الشعبي وهو الشيء الذي استقطب السلطة المركزية/المخزن وما شابهه على الاقتراب من هذا النبض وجعله نبضا مستدمجا وهنا نفهم معنى دور الفقهاء في الانخراط في هذه الممارسة لأن الرهان كان على هذه الفرجات وتأثيرها على الوجدان الشعبي في تأطير المجتمع واستدماجه ونقد النموذج الوطني المعبر عنه في مجموعة من الأدبيات السياسية بالمواطن الصالح، ونفس الشيء نلاحظه على التوجهات الحديثة في تأطير الممارسة المسرحية واحتوائها تحت أجراء سياسة الثقافة الشعبية ومستخرجاتها مثل التربية الشعبية والتي عملت الشبيبة والرياضة كقطاع حكومي على الاهتمام بها في ميدان سياستها المتبعة في بدايات الاستقلال السياسي للمغرب، وبهذه التوجهات سيعيد المسرح دوره كآلية من آليات الاندماج والتنشئة الاجتماعيتين، وهنا سيظهر بوضوح الدور التربوي للمسرح باعتماد مفهوم المسرح بمعناه الواسع، أي ذلك المفهوم الذي يعني أن المسرح هو جوهر عصره، لأنه يستمد منه ليس مفهومه فقط ولكن بشكل انبنائه وتكونه باعتباره فنا عضويا ينبثق من ذات الممارسة الاجتماعية . الشيء الذي يجعل منه غاية ووسيلة في نفس الآن، أي أنه ممارسة للتعبير عن الذات والإفصاح عن مكنوناتها لأن الإنسان ومن خلال انشغاله بممارسة العمل يمارس حياته في شموليتها وهذا ما تم توضيحه في الممارسة المسرحية المغربية والتي جاءت متواشجة مع هذا الانهمام الذاتي وجعل هذه الممارسة ممارسة للحياة ذاتها الشيء الذي عبرنا عنه بالوجدان الشعبي ووجدنا تجلياته في الغناء الشعبي بل إنه داخل في إطار هذه الحياة التي كان عليها الإنسان مند بدء الخليقة حيث كان انبثاق الفن المسرحي من الرقص كأداء حركي تعبيرا عن أحاسيس الوجود أما الفعل الدرامي فلم يكن إلا أداء كلاميا ينطوي عليه الغناء والإنشاد وهذا ما ينعت في التجربة اليونانية بالشعر العامي = الأيامبو، وفي التجربة المغربية بالبروال كمقطع شعري عامي في متن العيطة غير المركبة، كما أنه يتجلى في التجربة العربية عموما بالموال، وقد أعطى هذا الاعتبار في الأداء الكلامي للدراما حق نعته من قبل روم لاندرو بالمداح أو الكوال ويتجلى بأكثر وضوح في قصائد الملحون أو المألوف في التجربة المغاربية .
إن ارتباط التجربة المسرحية المغربية ومنها العربية بالنسق الثقافي العام لم يكن ارتباطا استدماجيا بقدر ما كان ارتباطا عضويا وهذا ما حاولنا تلمسه في هذه الدراسة والتي لم يكن هدفها إبراز الارتباط السياسي كنسق ونظام ثقافي عام بالمسرح بل إبراز انبثاق التجربة السياسية من الممارسة المسرحية وليس العكس .


سالم اكويندي
نشر في بيان اليوم يوم 15 - 02 - 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى