أحمد رجب شلتوت - في حوار مع سيد الوكيل: الكتابة طقس للحياة في مواجهة طقوس الموت

الكاتب المصري سيد الوكيل كاتب لا يكرر نفسه، كما يرى الكثير من متابعيه، إذ يسعى للتجديد الدائم في موضوعاته وينزع للتجريب، بحثا عن طرق جديدة في الكتابة، وبتعبيره يقول “إنني لا أميل إلى استنزاف أرض حرثتها من قبل”. وفي ما يلي حوار مع الكاتب حول تجربته ورؤاه للأدب والواقع، وعمّا تطرق إليه من قضايا ثقافية هامة سواء مصرية أو عربية.

الجمعة 2017/12/29

نحن نكتب عن الناس في كل حالاتهم، فمن يكتب عنا؟
يعرف الوكيل نفسه قائلا “أنا فنان تشكيلي ومسرحي وروائي وناقد، وقبل ذلك إنسان، أنا مسلم تربيت في كنائس شبرا، ومثقف أنتمي إلى حارات شبرا ومقاهيها، وهناك خالطت بناتها وشبابها وعشت أحلامهم المهدرة وجنونهم ونزواتهم ورغباتهم المقموعة وتعلمت أساليبهم في التحايل على الحياة”، وقبل ذلك كان جنديا خاض تجربة الحرب.


المثقفون أيضا بشر



عن أثر كل الخبرات التي عاشها في أدبه يقول سيد الوكيل “في شارع بسادة، الولد الخيالي البدين الذي يرسم الوجوه من طين وينفخ فيها من روحه، هو أنا الفنان التشكيلي الصغير. أما تجربة الحرب، فقد كتبتها في مجموعتي ‘للروح غناها، وأيام هند‘”.

أما النقد فهو بالنسبة إليه ليس ممارسة، بل هو ضرورة، إنه الوجه المقابل للإبداع، فالمبدع الذي يتجاهل النقد، يظل نمطيا وخاضعا للتقليد. وليس بالضرورة أن يكتب نقدا، ولكن يجب أن نعرفه ونفهمه جيدا، كما يقول. فالنقد هو فلسفة الأدب، كما أن للعلم فلسفة. وفلسفة العلوم والفنون هي جوهرها، وتمثل أرقى مستويات المعرفة. ويلفت الكاتب إلى أننا نحن العرب نعاني من فراغ نقدي، فيما يظل إبداعنا برغم كثرته، محليا ومحدودا. لذا يؤكد أنه علينا أن نسأل أنفسنا، كيف أن خارطة الأدب العالمي تحظى بكتاب عديدين من أميركا اللاتينية والهند والصين بل وأفريقيا، وليس لنا عندهم غير نجيب محفوظ؟

يفسر سيد الوكيل دوافع اختياره للمثقفين موضوعا لأولى رواياته “فوق الحياة قليلا” بأنه “في الثمانينات كانت الرواية الستينية قد التزمت بالواقع وقضاياه، ووصلت في ذلك إلى قمة اكتمالها، فوضعت جيلنا في مأزق. كان لا بد من الخروج منه. والبحث عن أفق جديد للرواية. فشاعت بيننا مقولتان تمسّكنا بهما: الأولى هي ‘عبور النوع‘ أي كسر نمط البناء على نموذج الوحدة العضوية المكتملة التي كتب بها الستينيون، والمقولة الثانية هي ‘الخصوصية‘، أي أن يكون لكل كاتب طريقته الخاصة وعالمه المميز حتى لا نتشابه في تجاربنا. بالنسبة إلى جيلي، لم يعد الواقع مفهوما كليا كما رآه السابقون، بل هو مرتبط برؤيه كل كاتب. وبالنسبة إليّ كان واقعي هو مجتمع المثقفين، فهو يمثل نموذجا غاية في التعقيد والتناقض والثراء، إنه مشحون بالهزائم والانكسارات والصراعات والأحلام المهدرة والمشاعر المستباحة”.

يتابع ضيفنا “ذات مرّة رأيت كاتبا كبيرا ومشهورا يصارع ليركب الأتوبيس المزدحم، تحول الأمر إلى شجار عرّضه للأذى البدني والنفسي، بالنسبة إلى الناس هو رجل دماغه شمال ويتكلم لغة غريبة. تدخلت في الأمر وطيّبت خاطره، هو لا يعرفني طبعا، ولكن عندما أخبرته أنني أعرفه وأقرأ له طفرت عيناه بالدموع. أدركت حجم المأساة التي يعيشها المثقف في واقعنا، بين إحساسه بالتفرّد والتميز، وعجزه عن أن يمارس أبسط أمور الحياة اليومية كبقية الناس، هنا نشأت فكرة ‘فوق الحياة قليلا‘، فلا هو منغمس في الحياة كبقية البشر، ولا يمكنه أن يتعالى عليها. لحظتها عرفت أنني وجدت واقعي الخاص، وسألت نفسي، نحن نكتب عن الناس في كل حالاتهم، فمن يكتب عنا؟”.

“الحالة دايت” عنوان غريب اختاره الوكيل عنوانا لثاني نصوصه الروائية، وفيه اختلطت سيرته بسير الموتى وسيرة الكتابة، نسأله إن كان يرى في الكتابة حياة أم موتا ثانيا؟ ليجيب بأن “الحالة دايت” تتضمن الإجابة عن هذا السؤال، فهي، كما يقول، رواية ذات طابع تأملي وتحليلي، ويعتبرها كاتبها الوجه المقابل لـ”فوق الحياة قليلا”، فقد رأى أن الكتابة، يمكن أن تكون طقسا للحياة في مقابل طقوس الموت. فإذا كانت الأولى تتسم بقدر من السخرية المؤلمة، فالثانية تتسم بالشجن والتعاطف.

_15144701909.jpg

تجربة غوص نفسية

قراء سريون



يصف الوكيل كتابه “لمح البصر” بأنه تجربة غوص نفسية، ومساءلة قاسية للذات، ويوضح دوافع هذا الغوص وتلك المساءلة بالتأكيد على أن هناك لحظة ما ينبغي أن يتوقف فيها الإنسان لمساءلة ذاته، فقد انهمك الكاتب طويلا في الحياة الثقافية، بين الإبداع والنقد والعمل الثقافي في المحافل والمؤتمرات والدوريات والسلاسل الأدبية، فضلا عن الحياة الشخصية. وقد وزع نفسه على مناحٍ عديدة، فنسيها، لذا يظن أن بعض ملامحه النفسية تغيرت، كما أن وعيه بالحياة اختلف بعد الكثير من التجارب والقراءات. إذ كان يحتاج إلى أن يعرف من هو بعد كل هذه الرحلة، وهو على مشارف الستين. فكان “لمح البصر” محاولة للبحث عن ملامحه الأولى، ولملمة ما تبقى منها، كما يقول.

يتابع الكاتب “الفلسفة علمتني أهمية الوعي بالذات، وعلم النفس يخبرنا أن التغيرات تصحبها جراح تئن في أعماقنا، وتبقينا غرباء عن أنفسنا، التغيير مؤلم، فهو بتر لأجزاء من ذواتنا التي نعرفها. لهذا رأيت أهمية في أن أكتب شيئا يخصني أنا، ويساعدني في التصالح مع ذاتي التي تغيرت بعد رحلة أوصلتني إلى الستين من عمري. نصوص ‘لمح البصر‘ ليست أحلاما رأيتها وكتبتها، بل هي كتابة تستنطق اللاوعي”.

وينفي الكاتب تأثره في أحلام “لمح البصر” بأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، موضحا “على فكرة، نجيب محفوظ ليس أول من كتب الأحلام، مصطفى بيومي له رواية ‘أحلام سرية‘ هي عبارة عن 99 حلما، كتبها قبل محفوظ بأكثر من عشر سنوات وهي تجربة مهمة ومتفردة، والطريف أن الأحلام فيها مرقمة كما فعل محفوظ، فهل بوسع أحد القول بأن محفوظ تأثر بمصطفى بيومي؟ ومع ذلك فالتأثر بنجيب محفوظ شرف، بل ضرورة. إنه المعلم الأول. ولكن، هل تصدق أن نجيب محفوظ وهو على مشارف التسعين، جلس يتذكر أحلام طفولته وشبابه، وراح يكتبها؟” في ذلك الأمر، الدكتور يحيى الرخاوي يؤكد “لا أحد يستطيع أن يتذكر أحلامه، فما يبقى منها هو التصور الذي يفهمه العقل الصاحي. إذن الأحلام أنت تراها في النوم فقط، أما كتابتها، فتحيلها إلى نص أدبي، له تقنياته وأساليبه”.

روايته “شارع بسادة” بداية من عنوانها هي رواية مكان، لكنها احتفت بالإنسان، أما كان ذلك يمثل ذلك نوعا من المفارقة؟ يجيبنا الوكيل “لم أقصد أي مفارقة، وأنا لا أحترم لعبة المفارقات في الكتابة، لكني أحبها في النكتة، وفي المثل الشعبي. المشكلة أن ما أطلقنا عليه رواية مكان، قد راهن على آثار الإنسان في المكان ونسي الإنسان نفسه، واهتم بالطبيعة الجغرافية والعادات والتقاليد. وحشد الكتّاب رواياتهم بموتيفات فولكلورية، لكن هل يمكن لكل هذا أن يكون له معنى دون الإنسان؟ هنا تكمن المفارقة المضحكة”.

يقرّ الكاتب بأن طريقته في الكتابة تواجه صعوبة في التلقي ويضيف “أيضا تستبعد من المسابقات التي تشترط التصنيف، ولكن يأتي قارئ ما في مكان ما يحتفي بها. الباحث العراقي كريم ناجي تناول ‘الحالة دايت‘ في رسالة دكتوراه عن الرواية الحديثة، وفي مصر مازلنا مشغولين إن كانت رواية أم لا، ذات مرة قدمني زميل لأحد معارفه: سيد الوكيل زميلي في الشغل. اندهش الرجل وقال ‘بتاع شارع بسادة؟’ الشاهد أن هناك قراء سريين، كما أن هناك كتابا سريين. هذه نظرية أثر الفراشة”.

سيد الوكيل: الكتابة طقس للحياة في مواجهة طقوس الموت | أحمد رجب | صحيفة العرب



سيد الوكيل.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى