أحمد بوزفور - غيابات القلب

الغيابة الأولى: الحليب
أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي، وسرعان ما عادت إلى ذاكرتي رائحته الفاغمة التي عرفتها في الطفولة وهي تتصاعد مع البخار إلى الأنف، وشرشرته وهو يهبط من الإبريق الأبيض إلى الكأس المزوقة في الصينية الصفراء، حتى لقد أحسست بالشرشرة تغلف ـ بغلاف مخملي ناعم ـ ضجيج السيارات وراء زجاج النافذة المغلقة. وغمرني وأنا بين النوم واليقظة عالم الحليب الطفولي القديم.
ـ حليب الكأس المزوقة والإبريق الأبيض
ـ وقبله حليب المعزة الملتذة بالحلب وهي تجتر ساكنة مستسلمة، ورائحة الضرع المكتتر الأجرد، والخشونة الناعمة لـ (البزولتين) الدافئتين، والحليب وهو يسقط منهما في دفعات موقعة في نغمتين متواليتين: نغمة الخروج من الضرع، ونغمة السقوط في الحلاب الطيني الأحمر المغسول، المسدود فمه بنبات شوكي (لتصفية ما قد يقع في الحلاب من قذى أو غبار).
ـ وقبل هذا حليب الرضاعة، ولم يعد في ذهني منه إلا أطياف حس لا تكاد تبين، ولكني أعاود الإحساس بالرضاع:
*** في غموض كثيف تارة حين أتصور أمي وهي تتزين وتبكي في نفس الوقت، أرفع عيني الطفلتين إليها فأراها تتكحل أمام المرآة المكسورة، وأرى الدمع الأسود ينساب على خديها الجميلين، فأبكي لأنني لا أحتمل جمالها الخارق أو لأني لا أحتمل بكاءها الحزين الصامت أو لأني لا أحتمل اجتماعهما معا: الجمال والبكاء، فتحملني إلى حضنها وتلقمني ثديها الأبيض وهي تطل علي بوجهها الجميل الباكي فأغمض عيني وقد انحفر فيهما إلى الأبد.
*** وفي غموض شفيف تارة أخرى حين أتصور جارتنا (خالتي فاطنة) تلقمني ثديها الأسمر الكبير وهي تغني أو تذكر الله أو تتابع حديثها مع أمي، وأنا أسمع صوتها الحلو المدغدغ، وأتأمل وجهها الموشوم وعينيها البراقتين وأسنان ضحكتها البيضاء قبل أن أغمض عيني لأركز حواسي على طعم الحليب.
هو ذا الطعم الأبيض الحلو يعود إلي الآن بعد هذا العمر الطويل، وأنا الذي لم أذق الحليب منذ سن السابعة، ولكنه يعود ممتزجا بطعم غريب: طعم كطعم التراب.
(وأنا صبي، كنت مولعا بأكل التراب، حتى لقد كانت أمي تسجن كفي الصغيرتين في قفازين مصطنعين من مزق الأثواب البالية، وتضربني حتى يرتفع صراخي حين تجدني مكبا بوجهي على الأرض ألحس ترابها في (نشوة) دونها (نشوة) الرضاع.
أو لعله طعم الصلصال، ذلك النوع الأصفر المتماسك من التراب، الذي كنا –ونحن بعد في الكتاب- نطلي به ألواحنا الخشبية بعد غسلها من محفوظات الأمس لنكتب عليها من جديد. أسترد طعم الصلصال في فمي الآن. طعم مزدهر، مهرجان حواس، أرى صفرة الصلصال الباهتة، وأسمع سن قلم القصب وهو يخط عليها، وأحس بلساني وأسناني نعومتها وهي تتفتت تحت أضراسي كالشوكولاطة. وحينئذ، حينئذ فقط، يأتي الطعم المزدهر، طعم الجنة (كنت أتصور الجنة في الآيات التي أقرؤها جنة من صلصال) هذا الإحساس المزدوج بالحليب وبالصلصال، أو بدقة: هذا الإحساس المركب المتداخل بالحليب/الصلصال، هو ما أحسسته وأنا أستيقظ فزعا من حلم لم أعد أتذكره.
اشتريت نصف لتر من الحليب، ليس عندي إبريق، غليت الحليب في (الكاصرونة)، حليته بالسكر، ثم صببته في فنجان القهوة.
(لا كأس ولا صينية ولا صلصال)، نفخت على الحليب الساخن ليبرد (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو) كانت المرحومة تقول. ثم تذوقت الرشفة الأولى. قبل أن أتذوق الثانية، تذكرت الحلم، كاملا، وبوضوح، بوضوح باهر ورهيب.
الغيابة الثانية: الحلم
رأيتني أولد. أخرج إلى الدنيا شيئا فشيئا، أتولد. كنت أحس على زغب رأسي الناعم (أراه زغبا صغيرا ملتصقا بجلدة الرأس الطرية وأحسه ناعما وأنا مغمض العينين بعد) نفحة هواء بارد تعقبها لفحة هواء ساخن، تعقبها؟ بل في نفس الوقت، أحس بالنفحة/اللفحة باردة ساخنة في نفس الوقت، وباليدين، تستقبلانني، يدين صلبتين/مرنتين، يدين خبيرتين، تمسكان جانبي رأسي بحزم ولكن دون ضغط، وتجران، لا تجران فعلا، ولكن تهمان بذلك، أو توحيان به، أو تشجعان/ تساعدان عليه.
رأسي في الخارج أصبح، وسائر جسمي بعد في الداخل، وأنا أولد شيئا فشيئا، وأنا أتولد… لكن دون نهاية. أحس أن هذه الولادة لا نهاية لها، وأنني سأبقى هكذا إلى الأبد، أولد وأولد وأولد، دون أن أولد، أحس أني محكوم بولادة مؤبدة، وأني سوف أعيش أولد حتى أموت.
وداخل هذا الإحساس/ومعه في نفس الوقت، أحس أني أموت، وأن هناك يدا كبيرة من فوق، وليس من تحت، لا تستقبلني بل ترسلني، وكأن هذه اليد الكبيرة سمراء، وكأنها يد عظيمة معروفة لا لحم فيها، يد يابسة باردة تضغط بأصابعها القاسية على كرتي الطينية (ذلك أني أصبحت في هذه اليد كرة طين) وتفتتني. وأنا أتصاغر وأتذارر وأتساقط في الفراغ، (شاعرا بأني أموت) أتساقط بين اليد الكبيرة العالية جدا وبين الأرض البعيدة البعيدة جدا، لا أخرج كليا من اليد ولا أصل نهائيا إلى الأرض. بين بين أحسني أتولد. بين بين أحسني أتلاشى. أتولد أتلاشى… أتو… اشى… أتلا…لد. ولكن أين الحليب/الصلصال؟ الغريب أن الحلم لا حليب فيه ولا تراب، فمن أين جاء هذا الطعم المركب إلى فمي وأنا أستيقظ مرعوبا من الحلم هذا الصباح؟
الغيابة الثالثة: النمر
وحيدا، حرا، عاريا، يسير على حافة الآن. على حافة الآن السائلة من منبع الأمس إلى مصب الغد يسير النمر وحيدا كآدم، حرا كشعاع، عاريا كإمبراطور، وعلى الضفة الأخرى تتجمع قبائل القلب حول النار ترقص وتضرب الطبول، وتصلي:
" يا أطلس
دم دم.. دمْ
يا أرقط
دم دم.. دمْ
يا أجلى من نور الشمس وأخفى من سر الليل الأبكمْ
دم دم.. دمْ
يا الكائن حتى القتل الفاسد حتى النفي الأدنى حتى المثل الأقصى حتى الضد ويا حتى الحتى
دم دم.. دمْ
يا الضارب في نبضات القلب الساري في كريات الوعي الشاخص في لفظ الموت الناشب في حلق الصوت ويا دمدمة الدمْ
دم دم.. دمْ
يا الحطم القطم الخارج م الخارج والداخل في الداخل والناشز والمختلف المنتبذ الملتمْ
دم دم.. دمْ
يا الماء النسغ ويا النار السنيا
يااللايسكن واللايعيا
دعنا نحيا
دم دم.. دمْ
دعنا نحيا
دم دم.. دمْ
دعنا نح"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى