بانياسيس - القص بهدف.. القص بلا هدف

ربما لم اكن محظوظا عندما كانت أول قراءة لي للنقد الأدبي لناقد بروفيسور بإحدى الجامعات الأمريكية -ربما سأتذكر اسمه وإسم كتابه القيم فيما بعد - وسوء الحظ يكمن أنه بدلا عن منحي إجابات لتساؤلاتي الكثيرة حول النقد فقد أعطاني إجابة واحدة تتمثل في أن النقد مسألة شخصية ونسبية. وهذا ما كنت أرغب في تجاوزه بإجابة أكثر عنفا منطقيا مما كنت أتصوره. إن البروفيسور أحبطني جدا عبر موقفه ذاك وهو موقف استسلامي بحيث لم يحاول -وهو الاستاذ في النقد- الدفاع عن النقد. لقد همش علمه وتخصصه بشكل يسخر فيه من نفسه. ولا أعرف هل ذلك كان منه حيادا لا يجروء عليه سوى الأبطال ام نتاج تجربة عميقة ومؤلمة.
في النهاية يتوزع النقد بشكل ما على كل انسان من السبعة مليارات نسمة بمختلف مقاييسهم المفاهينية . وبحيث يكون الحديث عن "النضج" مجرد استعلاء يتضمن "عدم نضجه".
لماذا اقول انه كان حظا سيئا لي ؛ لأننا كبشر غالبا ما نعتمد على فجوات اللا معرفة لنؤسس عليها مواقف ثابتة. وغالبا ما تزعزع المعرفة مواقفنا تلك كلما ازدادت عمقا. وهكذا تزعزع موقفي تجاه كل من يكتب مقالا او مؤلفا يعنونه ب كلمة (نقد) . هنا أنا لن اقرأ النص محل النقد ، ولا النقد نفسه إنني هنا اقرأ الناقد. ويبدو أن الامر يتحول إلى قراءة سيرة ذاتية لتاريخ ديناميكية الدماغ البشري (دماغ الناقد). النقد العميق هو عمق الناقد وليس النص. والنقد السطحي هو سطح الناقد وليس النص محل النقد. إن النص يموت تماما. أو أن النص إن لم يمت فهو كالبنزين الذي يحرك مكنة السيارة. لكن السيارة هي التي تنقلنا وليس البنزين. هناك اتصال بين النص وما يقدح في ذهن الناقد من أفكار. لكن هل هذه الأفكار هي ذاتها النص؟. بالتاكيد لا. بل قد تكون بعيدة اشد البعد عن النص.
وفي المدرسة في المرحلة الابتدائية حيث كنا ندرس قصص الأطفال كانت تطرح تساؤلات حول الحكمة من القصة. وكنت شخصيا ذكيا ومتفوقا جدا في استنطاق تلك الحكمة...مع أنني اليوم أشك كثيرا حول الحكمة نفسها (كحكمة) ، وهل بالفعل تعتبر الحكمة تعبيرا قياسيا عن عالم المثل أم رابطا قياسيا بين الواقع والوهم الإنساني. يبدو أن التفكيكية (رغم كل شيء) احتفظت بحقها في الحكمة ، وهكذا سقطت في تأسيس العالم على قوانين مستقرة. كان بإمكان التفكيك أن يطرح -ليس موت المؤلف- بل موت النص نفسه. وهكذا سيكون أقرب لتحقيق مأساة النظرية. لكنه ظل محتفظا برابط خفي بين النص والمعنى. وهذا سلب الفلسفة فرضيتها الأساسية.
هنا علينا أن نعود للأسئلة القديمة حول الكتابة بهدف والكتابة بغير هدف ، كالفن للفن كالعدالة من أجل العدالة. اي المعيار المطلق. النتيجة (الصفرية) لتلك الاسئلة القديمة كان لها قيمة كتساؤلات ميتافيزيقية. لكن هل علينا أن نستمر في طرحها ،أم هل علينا ان ندافع عن اللائية nonism؟
الاجابة نفسها هنا تعتمد على موقف ذاتي وسيكولوجي في نفس الوقت ، وهذا ككل إجاباتنا في الحياة.
ان تكتب بهدف او بغير هدف. ربما حتى بعير هدف تصبح الكتابة ذات هدف. وهكذا نغرق في صراع الشيئية thingsism واللائية من جديد.
لذلك هنا علي ان اقدم رؤيتي شديدة الخصوصية ولا اقدمها كإجابة بل كتجربة ، أي في إطار أنها لا تحمل أي درجة من الوصاية وإن حملت معنى ما.
يبدو انا هناك ايمان عام بالقصدية ، والتي يعبر عنها دوما (بالفعل).. فعل الكتابة ، فعل الحكي (كما يحب المثقفون) ، فعل القص. لقد دخل جون سيرل في تلك المسألة الشائكة وبدا ذلك منذ أول صفحات كتابه عن القصدية ، حيث أزاح كل المفاهيم المطروحة عن القصدية أولا ثم طرح مفهومه الشركي ثم سقط في البئر.
إن الدجاج يظل يأكل طالما كان نور القفص مفتوحا ، ونحن لا نستطيع ان نتبين إن كان لذلك هدف ما ، فهل هو يأكل لأنه يستمتع بالأكل؟ أم يقوم بفعل الأكل بغير قصد؟ وإذا كان يستمتع فلماذا يترك طعامه وينام بمجرد إطفاء مصباح القفص. ما هو الفعل القصدي الذي نرجوه حين نتساءل عن الكتابة بهدف والكتابة بغير هدف؟.
إن النقاد الأدبيين لديهم ذلك الاقتناع العام بالقصدية ، فهناك هدف من الكتابة دائما. وهنا يحدث ان النقد الادبي (الموضوعي على وجه الخصوص) يعود بنا إلى سؤال المدرسة الابتدائية: ما الحكمة من هذه القصة؟
وهنا يطرحون ما يسمى بالتأويل ويتحدثون عن النهايات المغلقة والمفتوحة. هم في الواقع لابد أن يطرحوا كما فعلوا دائما (أكثر من عشرين تأويلا لرواية المسخ القصيرة لكافكا). هم لا يستطيعوا أن يقولوا بجملة واحدة:(لا هدف.. او لا حاجة بنا إلى هدف .. أو النهاية المفتوحة هي ليست مفتوحة لأنها ليس بالضرورة أن تكون مفتوحة او مغلقة.. ويقول فلاسفة الفن عكسهم تماما: أن الفن يترك ولا ينجز). هؤلاء الأخر يبدو أنهم أكثر التصاقا بالفن من التصاق النقاد الأبيين بالأدب. وأقصد بالالتصاق المارسة (الواعية) لمحل النقد. (والوعي هنا أيضا يجب أن يفضي بهم إلى مسألة معاكسة جدا لما يتمظهر من كفردة الوعي ، فالوعي ليس بالضرورة أن يساوي القصدية وهذا ما أتفق فيه مع سيرل).
الكتابة بهدف وبعير هدف ليست قضية بسيطة ولا ثنائية جديدة كما قد يظن البعض. الكتابة بهدف أو بغير هدف اكثر عمقا من مجرد كونها تساؤلا ، لأن بين الحرف والدماغ مسافات تبلغ رقما مهولا من السنين الضوئية. اما بين الكلمة والدماغ فمضاعفات ذلك الرقم ، أما بين الجملة (الحكي ، القص) فمضاعفات لا نهائية.
وعندما نقتنع بذلك سيبدو لنا التساؤل عن (الحكمة) غير حكيم ، لأنه يتجاهل ذلك التداعي الذي نحسه في الكتابات الجيدة كماركيز وأوي وكافكا وغيرهم...
وإذ تبدو الكتابة على هذا النحو تداعيا حرا فلا يعني ذلك أنها تداع عشوائي كما يعتقد البعض. فهناك كما كل شيء كابح يتماهي مع الحرية. ويتماهى مع اللائية والشيئية ، مع الهدفية واللا هدفية. وهكذا سيكون هناك حتما هدف ما ولو كان هو اللا هدف.
لا استقي بذلك سوريالية للكتابة فليس لدينا حكم مطلق. ولكن قد أرى ان من السخيف جدا أن نتحدث عن قاص (عضوي) ، لأن هذا الوصف -وبالمناسبة- يؤثر على فهمنا العام للقص:
- هو يمنحنا حق ان نسأل عن الهدف من النص.
- هو يجعلنا نؤمن بما تعنيهي غيبية الإيمان بأن الكاتب له رسالة ما او يجب ان تكون له رسالة.
- هو يجعلنا -وفقا لما سبق- نفرض معايير اخلاقية محددة عند الكتابة.
- بل وان ذات المعايير يمكن ان تحدد للقاص كيف عليه ان يقص وخياراته المحددة مسبقا لتصوراته عن بيئة النص...
لقد أشرت إلى ذلك في مقال سابق حول الكتابة بغرض اقناع الغرب. الكتابة التي يجب ان تكون لها قيمة اكاديمية وفقا لاهتمام الغرب ، أن اكتب من اجل الدفاع عن حضارتي في مواجهة حضارات الآخرين. كما تفعل أغلب مؤلفات الأدباء الأفارقة اليوم... فتتقلص قيمة الفن من أجل الفن ، وتموت العفوية ، وتنمو الصناعية ، وهذه كلها مقومات ذات بعد رأسمالية واضحة.
فالغرب -على نحو خفي- يسعى لرأسملة الأدب عند العالم غير الغربي في حين يظل هو يطعن في مفاهيمنا القديمة كالأصالة. ومن ثم فليس غريبا أن ادباء أفارقة يمكن ان يصبحوا أدباء العمل الواحد.
67943519-student-business-men-intend-to-work-write-down-the-information-vector.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى