ميخائيل سعد - مراهق في بيروت.. قصة قصيرة

كان عمري خمسة عشر عاما عندما قررت الهجرة الى مدينة أحلامي بيروت. كنت قد عرفت من أصدقائي في الاعدادية أنهم يذهبون مع أهاليهم أو لوحدهم للعمل في موسم الصيف، في لبنان، في المطاعم او الحقول، وكنت أعرف بيروت عن ظهر قلب؛ شوارعها، باراتها، مقاهيها، مواعيد العشاق فيها وأماكن تواجدهم، كانت قصص بيروت تعشعش، دون أذن، في تلافيف مخ مراهق سوري، يعمل بعد المدرسة، كي يشتري، عن الارصفة، قصص الحب الرخيصة التي تتحدث عن المراهقين الكبار، في عاصمة المراهقين العرب، في بيروت. تقدمت لامتحان الشهادة الإعدادية، ثم قلت لوالدي: أريد الذهاب إلى بيروت بحثا عن عمل. كان والدي يعاملني، لسبب لا أعرفه حتى الآن، كرجل، منذ أن كنت صغيرا، مما أفقدني طفولتي وحرمني من ألعابها، فقال بعد أن فتش جيوبه جيدا: معي عشر ليرات، وهي لك. قبّلتُ جبينه قبل التوجه إلى محطة القطار في حمص، مستقلا العربة، التي كانت تسمى في وقتها (اتومتريس)، وكانت الأجرة من حمص إلى بيروت وقتها، أربع ليرات سورية.

وصلت بيروت عصر يوم حار من أيام حزيران عام ١٩٦٥، وفي يدي محفظة صغيرة فيها قميص وبنطلون وشحاطة، وفي جيوبي أربع ليرات لبنانية، بعد أن صرفت الليرات الست السورية الباقية معي، إلى الليرة اللبنانية. أول شيء أعرفه بالقصص ورأيته حقيقا، بعد ان غادرت محطة القطار في بيروت، كان فندق السان جورج، وقفت أتأمل مسبحه وبابه وأرى النساء يخرجن من السيارات ليدخلن ”الأوتيل“، ثم يكمل لي خيالي ما يحدث في الداخل.

تابعت السير على الكورنيش غير مصدق أن هناك، على الشاطىء، غير بعيد عني، نساء في ”المايوه“، لا شيء يستر عري أفخاذهن. كانت المرة الأولى التي أرى فيها فخذين من لحم ودم لامرأة حقيقية، لم أكن في السينما، ولا أتصفح مجلة، كان شيئا مدهشا ومثيرا ومحبطا وقريبا من اليد لدرجة لا تُصدق. كنا في حمص، انا وأصدقائي نمضي الساعات أمام مواقف الباصات العامة، لمراقبة الصبايا وهن يصعدن او يهبطن من الباص، لعلنا نرى بياض لحم الفخذ ما فوق الركبة بقليل، وكنا نقضي ليالينا مستعيدين تلك اللحظات المثيرة، فجأة وبمنتهى البساطة ترى فخذا لحميا نسائيا كاملا، يتحرك جيئة وذهابا أمامك وكأنك غير موجود.

يداهمني الليل وأنا ما زلت أسير في شارع الحمراء، أسأل، كلما رأيت مطعما، إذا كانوا بحاجة لمن يعمل عندهم، فكان الجواب دائما: هل معك إذن عمل؟

كنت أعرف أنني سأصل إلى ساحة البرج. وأنا، في طريقي، رأيت فندقا متواضعا فدخلته وسألت عن أجرة السرير في الليلة الواحدة، فقال لي رجل من وراء مكتبه: ”بلاش“، ثماني ليرات في الليلة. قفزت هاربا، فقد كان معي أربع ليرات فقط، قد تكون كافية للعودة إلى حمص، ولكن دون أن أنام أو آكل أو أصرف قرشا واحدا. تابعت سيري وقد بدأ القلق والخوف، من أن لا أجد عملا، ينسيني التحديق بالنساء الجميلات اللواتي كن يظهرن فجأة ليدخلن في أحد الأبواب التي تغص، وتكاد تختنق بالألوان الكهربائية، كن أجمل من جميع من رأيت من نساء في السينما. وجدت نفسي في ساحة البرج، ورأيت أمامي فندقا يحمل إسم سوريا ولبنان، فعادت لي الروح بمجرد قراءة اسم سوريا، وقدرت أن هذا الفندق، فيه ما يكفي من سمات الفقر، كي يكون متطابقا مع اسمه السوري، ولكي يكون مناسبا للأربع ليرات التي وصلت معي. صعدت الدرج بثقة وسألت المسؤول عن سعر السرير لليلة واحدة، فقال: ليرتان ونصف تدفع سلفا. لم أناقش، دفعت ما عليّ، ووضعت محفظتي الصغيرة في الغرفة ثم غادرت الفندق بحثا عن بعض الطعام، وجدت رغيفين من الخبز وأربع خيارات بنصف ليرة، وحسبت: رغيف وخيارة للعشاء ومثلهما للإفطار، ويبقى معي ليرة كاملة ليوم الغد. عدت إلى الفندق، وفهمت أن نقابة المطاعم موجودة في البناء المقابل للفندق، ويجب أن أذهب إليها، إذا كنتُ أريد أن أحصل على عمل. شعرت بالراحة النفسية قليلا، ودخلت للنوم استعدادا ليوم الغد، واستحضرت خيالات السابحات وأفخاذهن والنساء الجميلات في شارع الحمراء، ومارست العادة السرية وغفوت.

في الصباح، غادرت الفندق مصطحبا معي محفظتي، لأنه لم يعد معي ما يكفي من مال كي أدفع أجرة ليلة ثانية. دخلت إلى نقابة المطاعم، فوجدت حوالي ثلاثين شخصا يجلسون في قاعة. سألني أحدهم، من مكتب مشرع الأبواب، وبصوت لا إحترام فيه: ماذا تريد ؟ فقلت: عملا، قال: أنت سوري ولا عملك لك عندنا. هممت بالمغادرة، فقال أحد الجالسين في القاعة الكبيرة: تعال يا ابني وأجلس هنا، ليس عندهم إلا العمال السوريين. كلنا سوريون هنا. بعد أقل من ساعة، نادي الرجل الذي في المكتب قائلا لي: هناك عمل في ”برمانا“، في مطعم التيفولي، كمرمطون ب ١٢٠ ليرة بالشهر آكل نايم. قلت: شو يعني مرمطون: قال جلا صحون يا فهيم. أعطاني ليرتين، وقال لي أين يقف الباص الذاهب إلى برمانا، وعن مَن يجب أن اسأل، في مطعم التيفولي.

كان المطبخ سوريا بامتياز، فكل العاملين فيه سوريون، بما فيهم ميشيل ”العشي“ الكبير، اللبناني الذي درس في حمص، في الكلية الارثوذكسية، اأو في ما أصبح يُعرف بالغسانية، لذلك كانت علاقته طيبة مع العمال، وخاصة معي، لأنني كنت الأصغر بينهم. سمع ذات يوم، أحد العمال الشباب، يقول لي: إذا كنت راغبا بالذهاب معه إلى بيروت، لزيارة سوق الشراميط، فقلت له نعم أريد. ترك الشاب يبتعد ثم ناداني أن أقترب منه، ففعلت، فقال لي: ميخائيل أنت مثل ابني، وأرى أنك ما زلت صغيرا على تجربة النساء، أمامك متسع من الوقت لتجرب هذه المتعة، أنت حر، ولا أحد يستطيع أن يجبرك على شيء. كانت كلمات ميشيل كافية كي تبعدني عن الجنس ثمانية عشر عاما أخرى من عمري، فقد كانت تجربتي الجنسية الاولى الكاملة عندما تزوجت، وكان عمري وقتها ٣٤ سنة.

انتهى صيف بيروت مع رسالة وصلتني من أبي يقول فيها إنني نجحت في الشهادة الأعدادية بتفوق، وأنه قدم لي أوراقي للدخول إلى دار المعلمين في حمص. وكتب أيضا: أنت تعرف يا بني أنك، براتب ٨٠ ليرة شهريا في دار المعلمين، تستطيع ان تساعد العائلة وتصرف على نفسك، قبلاتي لك، ونحن بانتظارك.

عدت إلى حمص مرتديا طقما جديدا، مع قميص أبيض كالثلج، وكرافة وأزرار كبيرة للكمين، كنت شديد الحرص على إظهارهما كلما مرت صبية بالطرف الآخر من الشارع.

دخلت دار المعلمين، ودخلت عصر البعث، ثم عصر الاسد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى