طيب تيزيني - الحضارة العربية وأزمة التحول..

حاولنا في المقالات الأخيرة تبيان ما تتحمله فكرة أو أفكار الحضارة العربية من استخلاصات منهجية. وفي عصرنا الذي يقدم نفسه كحصيلة للأحداث العظمى التي مرت على التاريخ العربي، فإن هموم العالم العربي «ممتزجة» بما واجهه من صعوبات واضطرابات وانكسارات. وعلينا أن نشير إلى أن مثل هذه البنية المركّبة الخاضعة لاضطرابات مفتوحة، تفصح عن نفسها بمثابتها منتمية إلى تلك البنية، وليس بمثابتها حالات من التخمّر والتكوّن المبشّرة بنتائج إيجابية.
إن ما حدث ويحدث في العالم العربي تعبير عن أزمة بنيوية تاريخية تعكس الاختراقات التي أصابت وتصيب ذلك العالم في عصر مضطرب وفي معظم البنى الراهنة، ما قد يكون خطوة كبيرة إلى الوراء. فمشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية والعلمية والحضارية تكاد تكون مضطربة وفاشلة في معظم البلدان العربية، حيث لا تكاد الاضطرابات الاقتصادية والأمنية تتوقف في مناطق عربية عديدة، مما يقود إلى أزمة بنيوية عامة مغلقة على الحل.
لسنا هنا متشائمين، لكننا أيضاً غير متفائلين أمام المدّ الهائل من الاضطراب والتأزم في العالم العربي، وهنا لا نتجاوز البنية العربية الداخلية وقد باتت حُبلى بالأزمات والاضطرابات ذات الطابع الاقتصادي والأمني والغذائي وغيره، بل نحن نواجه نمطاً من الأزمات التي قد تتأبّى على الحلول العقلانية، ناهيك عن الحلول السّلمية.
وهنا نجد أنفسنا وقد أصبحنا خارج الحقل العقلاني الواقعي المعتدل، خصوصاً مع اتكاء بعض الحلول العربية إلى بلدان أخرى غير عربية. مع العلم بأن هذا الاتكاء خاضع للنتائج المتأتية عن الشعور الواقعي بالإخفاق. إنه فشل مركب يقف في وجه دعاة التآخي العربي.
إن ما توصلنا إليه في سياق دراسة الأنماط الحضارية الثلاثة، ربما لا يكتمل تاريخياً وبنيوياً إلا إذا توافرت بأيدينا حيثيات الأنماط الحضارية الأخرى العربية المحتملة. وهذا ما يجعلنا في حالة بحث عن المصادر والمراجع المتصلة بما تبقى من أنماط حضارية عربية. وإذ ذاك قد تكتمل الرؤية الشمولية للحضارة العربية عبر التاريخ.
وإننا في المرحلة التاريخية التي صمدت في استمراريتها وأهميتها تلك الحضارة، لَنجد أنفسنا أمام ضرورة البحث والتبصر في هذه الحضارة، خصوصاً بعد أن لاحظنا الأيدي الغربية وهي تمتد باتجاه حيازة ما تكتنزه هذه الحضارة من عناصر لم تفقد قيمتها على مر الزمن. وسوف نكتشف أهمية ذلك الفعل في مرحلة من الصراع العالمي القومي بين قوى راهنة تناهض كيان الحضارة العربية.
إن فصلاً جديداً من البحث في الحضارة العربية ينبغي إنجازه لوضع أيدينا على مواقعه وحلقاته وبُناه واحتمالات تطوره، في المرحلة العربية الشائنة الراهنة، وذلك في سياق المشروع الحضاري العربي المطلوب في مرحلتنا الحالية بإلحاح، في مرحلة تتعاظم فيها الأقلام المغرضة والنوايا السلبية للجْم الدخول في عالم الحداثة والحضارة والتقدم والديمقراطية، مع الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية المفتوحة على العصر، والقابلة للتطور والتطوير، في مرحلة هي من أشد المراحل قسوة وصعوبة وإشكالية.
وهكذا، نكون قد انضوينا في صفوف الحضارة العقلانية المنفتحة، والتي تملك القدرة الكافية على الأخذ والعطاء، وإذ ذاك نكون قد حُزْنا على هوية التاريخ المفتوح على الجميع، مع محافظة دؤوبة على الحداثة والعقلانية والتقدم في مجموعة تامة أو شبه تامة من أهل العالم العربي المنفتح أبداً.


* المصدر
د. طيب تيزيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى