إبراهيم محمود - لحظة التفكير في حياة معلّمي وليس أستاذي طيب تيزيني

ولِد، عاش، مات! ولِد ومات كغيره، لكنه لم يعش كغيره. كيف عاش إذاً؟ سؤال يستدعي جوابه القائم بالتأكيد، على لحظة التفكير الممتدة في الزمن قليلاً أو كثيراً، ولكل منّا، وفي المجال السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الفكري، الأدبي، والفني...الخ نصيب معين في ذلك.

من هنا يمكن التطرق إليها في حياة معلّمي وليس أستاذي: المفكر السوري الراحل طيب تيزيني " 1934- 2019، وقد رحل قبله معلمون آخرون لي: بديع الكسم " 1924-2000 "، عادل العوا " 1921- 2002 "، صادق جلال العظم " 1934-2016"...هؤلاء وغيرهم كانوا معلّمي في قسم الفلسفة "كلّية الآداب، جامعة دمشق " في سبعينيات القرن الآفل، وبتفاوت في التأثير.

وأن أشير إليهم، وضمناً تيزيني، بعبارة " معلّميّ "، وليس أساتذتي، فلأنهم أرادوا نقْل معلومات، وليس تحفيز إرادة المعرفة لبلورة شخصية معرفية، كما هو متطلب الأستاذية الفعالة.

وأن أتحدث عن معلّمي الأخير، جهة الرحيل الأخير طيب تيزيني، وهو خريج جامعة ألمانية، في نهاية ستينيات القرن الماضي، وفي قسم الفلسفة، ومعتمداً منهج الجدل المادي في قراءة موضوعاته ذات الصلة بالتاريخ والمجتمع والثقافة والدين...الخ، بدءاً من " رؤية جديدة للفكر العربي في العصرالوسيط "، فلأن السؤال البحثي ينبري متجاوباً مع مضمونه، متفرعاً:

يعلّم؟ ماذا يعلّم؟ كيف يعلّم ؟ أي معلّم كان ليكون تعليمه؟ وكيف هو مفهومه للتعليم، ليكون العلم شاهداً عليه فيما آتاه معرفياً وفيما توخاه فكرياً؟ أكان يتحرك في رحاب العلم، أم ينشد هو إليه ملتحقاً برحابة المعرفي، حيث يكون النسبي البذرة الأخصب لكل انفتاح على المختلف؟ وفي ضوء ذلك، أكان أحد معلمي، ومنهم تيزيني، يريد إلحاق طالبه الجامعي والعلمي لاحقاً بقاطرته الثقافية المؤدلجة، أم بفضائه المعرفي المتعدد الأبعاد والطيات، ربيب المختلف قبل كل شيء؟

إنها كاداء الروح الخالصة، حين يجد السؤال المركَّب نفسه في مواجهة جواب سياطي لاذع، رغم انتماء من ذكرتهم إلى جامعات لها عراقتها العلمية والمعرفية، إلا أنهم بمقدار ما مضوا بأوعية نفسية- ذهنية تنسّبهم إلى مطلق محروس، ومجيّش، قليلاً أوكثيراً، هكذا عادوا ومضوا إلى الأخير عموماً، رغم ذيوع صيتهم هنا وهناك، ولكنه لم يصيّرهم أساتذة معرفة، إنما استمروا معلّمي حرف منضبط، ليبقى الطالب دون اسمه، نظير اسم معلّمه لا أستاذه.

وكان تيزيني مدرسنا لمادة " الفكر العربي " ذات يوم، وكما عرِف عنه في عموم كتبه التي قاربت الثلاثين كتاباً، فيها من الفكري السجالي، أكثر من الفكري المطل على المعرفي المختلف.

والحصاد المعرفي هو الشاهد على ما تقدَّم، إذ من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً تأكيد وجود اسم طالب لأي منهم، وتيزيني ضمناً، وقد شكَّل جذموراً: ريزوماً حدّ شجرة أي منهم، بمنطق جيل دولوز، واستحالة الشجرة غابة، إنما ما يبقي الشجرة مهددة من داخلها، سطحية الجذور غالباً.

أتراني واهماً، متوهماً، متحاملاً، متجنياً، إن أعدمت مثل هذه السمة البحثية المطلوبة في أي مما ذكرت، وما في ذلك من " إلحاقي بركْب " استشراق " متحامل بدوره جهة " الشرق " ؟

لقد تعرضت إلى خاصية الأكاديمي ذات يوم، من جوانب شتى، في كتابي" الأكاديمي-2015 " متحرياً بؤس الاسم فكيف بالتسمية المرفقة لدينا، وترددات ذلك قيمياً واجتماعياً .

وأنا أذكّر هنا بما أفصح عنه الألماني العتيد ماكس فيبر" 1864-1920 " في كتيّبه الشهير " العلم بوصفه حرفة "، وكيفية النظر إلى العلم وحدوده المقترحة" حدود بلا حدود " كقوله ( لا يمكننا أن نعمل ما لم نتأمل مجيء آخرين سيصلون إلى أبعد مما وصلنا إليه .).

كيف عمل أولئك، لينظَر في أمر من تتلمذوا على أيديهم؟ كيف عمل هؤلاء، لينظر في أمر من انضبطوا على أيديهم؟ إنه فرق يشهد عليه مفهوم العلم الرحب المدى، والمأساوي في مهده !

ذلك لا يرتبط بتلك القدرات الواجب تفعيلها واقعاً، وما يجعل الواقع تعددياً، فحسب، وإنما ببناء تلك الإرادات الحية وقد وهِبت أو أكسِبت قوى دافعة لها، تلغي الحدود البطرياركية بين الطالب والأستاذ، أو ليكون لكل منهما مفهومه البحثي الفاعل حقيقة، ينبغي أن يكون هناك تأميم على الاسم وصفته في كل منهما: الأستاذ الذي عليه تجاوز عمره وموقعه واحتكار الرتبة الجامعية، ليتمكن من الإقامة الرمزية داخل روح طالبه، وليكون للطالب بدوره اسمه الفعلي القادر على إعلاء صرحه الفكري، وتأهيله أكثر من جذموراً وهو يحمل شغف غابة بأرض لانهائية.

كيف يسأل ما هو مسموح له، بالنسبة للطالب، وكيف يجيب ما يراه أنسب لطالبه، بالنسبة للأستاذ، فأي أرض ستشهد على نبت " صالح " وأي حصاد سيشهد على ثراء موسم/ غلة فعلية تحفّز على الاستزادة، وتبقي كلاً منهما صحبة الآخر، ربما كما هو المسرح البريختي بصورة ما، حيث يُقضى على الحواجز، حيث العلم هو الذي يحدد العمر ونوعيته معرفياً.

تيزيني حامل معطف منهج الجدلي المادي، وقد تأطر لديه، والساعي إلى أمثلة الفكر العربي، وقصقصة السامية في حدود العربية، ومن ثم النظر إلى العالم، وفي إطار المنطقة بمفهوم حزب انتمى إليه وعمل في ظله لبعض الوقت" حزب البعث العربي الاشتراكي "، وبوازع إيديولوجي لافت، ومن ثم ليراهن على ذلك المهمش في مطلق الألفية الجديدة، دون أن يكمل مشروعه البحثي " من التراث إلى الثورة " ربما بتأثير من الحمولة الإيديولوجية التي أثقلت عليه، لم يتمكن من الحصول إلا على لحظة تفكير محدودة، لم تضمن له، حال آخرين من معلّمي وسواي في الجامعة، ذلك الامتشاق القاماتي المعرفي، كافتراض ينفتح على المجهول والمتناغم مع المعرفة في أكثر حالاتها قابلية للإثمار والإعمار النفسيين. فالنفس المعرفية كانت، ولا تزال أمارة بالسوء في مجتمعاتنا، ومدارسنا، ومن ثم جامعاتنا تحت سيطرة الأبويات القاتلة، تتنفس برئة الأمارة بالظن، لتعيش المطئنة حِدَادها المزمن إلى تاريخ كتابة هذه الكلمة. أي ما يجعل من السؤال والجواب، كتوأمي معرفي خلاقيين منزوعي القيمة، مشتبَه فيهما، إن أطلِق سراحهما في ظلال أولي أمر العلم لا المعرفة، وتهديد المصلحة الرمزية للقيمين على المجتمع ومصائره .

ذلك يحول دون ظهور الشخصية بكامل اسمها، الشخصية البحثية حقيقة، في نطاق التابوات المقيمة والرحالة والمتداخلة والتي لا تحصى بأسمائها ومسمياتها جهة ضابطيتها.

لكم تألمت لرحيل تيزيني، ليس لأنه توفي، فهذا ما لا يمكن البت فيه، وقد تجاوز " ثمانين حولاً "، وإنما لأنه تحرك في ظل رجل العلم المؤدلج، العلم العصا إجمالاً، حيث لحظة التفكير لم تصل إلى مستوى تفعيل الأثر الحي للروح المعرفية، وانفجار المناهج الدالة على ذلك، أو شبكة الأساليب التي تسمّي طرق تفكير كل ممن ذكرت، وربما ما تشهده منطقتنا منذ سنوات طوال من تصحير وتدمير وحروب واحترابات، ذات صلة بصورة ما، بتلك التربية العلمية الشديدة الاختزال: المزكية لفولكلوريات العنف، وللجامعة السهم الوافر في ذلك جرّاء موقعها وواقعها.

وهنا يكون الفرق الأكبر بين من يشير إلى القمر، ومن ينظر إلى إصبعه.

ولا أدري، كما هو مقتضى القول المستغرَب طبعاً، إلى أي قمر كان يشير معلمونا، ومنهم معلّمي طيب تيزيني، من خلال إصبع ما حصراً !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى