مقتطف إبراهيم منصور - دفاتر القرية (مذكرات).. القسم الأول - البئر/ 1

عميقة بئر العمر، بئر الأيام الخالية، بئر الذكريات.
وإذ أقف على حافتها، أنظر فأراني عشت، بين عامي 1961 و1962 في قرية كفر سعد البلد التي ولدت بها، ثم عشت بين عامي 1963 و 1991 في قرية السعيدية القبلية، ثم عشت بين عامي 1991 و 2002 في مدينة كفر سعد، وانتقلت في العام 2002 إلى دمياط الجديدة. فانتقلت داخلها من الحي الرابع إلى الحي الثاني العام 2006 ثم إلى الحي الثالث، حيث بنيت منزلي عام 2017م.

القرية الصغيرة، التي نشأت فيها من سن سنة ونصف، وإلى أن بلغت الثلاثين، اسمها وتاريخ إنشائها يدل على الأسرة الملكية، أسرة محمد على، فالقرية اسمها السعيدية، نسبة إلى سعيد، وهو محمد سعيد باشا ابن محمد علي باشا الكبير، وقد سميت باسمه قريتان: جنوبية وشمالية، الجنوبية هي قريتنا واسمها السعيدية القبلية والشمالية هي قرية لا تبعد عن قريتنا بأكثر من ألف وخمسمائة متر جهة الشمال لذلك سموها السعيدية البحرية، وكأن الفروق الجغرافية بين القريتين تسمح بهذه التفرقة (بحري - قبلي) لكن تعمل أيه!! للضرورة أحكام، فطالما أراد المخططون تسمية قريتين باسم رجل واحد فكان لابد لهم أن يفرقوا بينهما.

لم يحظ اسم كل ابن من أبناء محمد علي، إلا بقرية واحدة، إلا سعيد وإبراهيم، فهناك قريتان باسم إبراهيم باشا هما الإبراهيمية القبلية والإبراهيمة البحرية.
أما القرى الأخرى فهي: المحمدية والاسماعيلية والعباسية والتوفيقية.
وكان لقريتنا اسم متداول هو "رابع" أي أربعة، كان أبي يسخر من هذا الاسم المتداول للقرية، قائلا "رابع المستحيلات"
وسبب التسمية بالأرقام أن بعض القرى كان اسمها وما يزال رقم، وهي القرى الصغيرة، فهناك عزبة واحد، وعزبة عشرين، وعزبة 28 وعزبة خمسة، ومجاراة لهذا النمط، أطلق الناس على السعيديتين رابع القبلية ورابع البحرية، أما الاسماعيلية فكنا نقول عنها "ساتت" أي سادس والتوفيقية كنا نقول لها سابع.

وسابع هذه كانت مهمة، لأنها حوت وحدة صحية ريفية، سوف أذهب إليها في زمن تال لزيارة صديقي الدكتور رشدي فرج الذي أصبح طبيب الوحدة وكان يذهب لعمله بعربة حنطور حكومية يسوقها حوذي، وهي مخصصة لتوصيل الطبيب من منزله على ترعة النيل في السعيدية القبلية إلى تلك الوحدة الصحية في التوفيقية، لابد أنني ذهبت إليه هناك كي يصرف لي جرعة من دواء ظهر جديدا للبهارسيا، هو البلترسيد.
لكن هذا كان بعد تخرجي في الجامعة. أما الذكرى القديمة التي أستقيها الآن من البئر وأنا واقف على حافته، فهي اسم الرجل الذي كان يحصل "المال" وهي ضريبة الأطيان الزراعية، كان اسمه سعد، سعد الصراف، لم نكن نعرف صرافين غيره، كان يأتي في موسم الحصاد. ولكن يبدو أننا كنا نتأخر في السداد أو نطلب التأجيل أو التقسيط. وإلا لماذا كنا - أو كان أبي - يعاود الذهاب إليه في مسكنه الحكومي، في سابع أي التوفيقية، في أوقات تالية لموسم الحصاد.
اختلف وتباين تصميم القرى الجديدة التي أنشئت في شمال الدلتا، وتبعيتها لتفتيش ري كفر سعد.
أما القرية الأم (المركز) فاسمها تفتيش كفر سعد، وبها محطة للقطار، و"ديوان" لمصلحة الأملاك الأميرية، ومدرسة، ومجموعة بيوت من طبقة واحدة، خصصت للمهندسين الزراعيين ولمهندسي الري، كل بيت منها بني على مساحة منفصلة لا يلاصق البيت المجاور، ولكل بيت حديقة خلفية غير مزروعة لأن ملوحة الأرض (السبخة) لا تسمح لأي نبات بالنمو، وظل هذا الوضع قائما، تفتيش ري يبدو واديا غير ذي زرع، حتى ذهبنا إلى المدرسة الثانوية عام 1976 وهو على حاله.
ثم بدأت تظهر بعض الخضرة حينما انتقلت عام 1991 للسكنى في "التفتيش" الذي أصبح مدينةعامرة، فيه متاجر وعيادات لأطباء وصيدليات وموقف لعربات الأجرة ومقاه وبيتا للثقافة.
أما البنية القديمة فبقي منها مركز الشرطة الذي أنشيء في الستينيات من القرن العشرين حينما صارت كفر سعد مدينة، وكان مركز الشرطة القديم خلف مدرستنا الثانوية في الشارع الذي كان يحوي ديوان مصلحة الأملاك، سوف أدخل هذا المبنى مرة واحدة خلف زملينا أحمد أبو طالب الذي قبضت عليه الشرطة من الفصل ونحن في السنة الثانية الثانوية.
و بقي من البنبة القديمة لكفر سعد كذلك "النادي" الذي لابد أنه كان ناديا للضباط كالذي يصفه توفيق الحكيم في كتابه "يوميات نائب في الأرياف"
هذا المبنى قائم مايزال لكن معالمه تغيرت.
ولقد كانت كفر سعد البلد هي موضع نقطة الشرطة التي أصبحت مركزا بعد ذلك . الحاج أحمد شعبان، خال أمي وأخو نينتي "أم محمد" الذي عمر مائة عام وعام، كان يؤجر بيته في قرية كفر سعد البلد ناديا للضباط في زمن سابق على إنشاء مدينة كفر سعد ومحطة القطار وديوان الأملاك. وكان بيت الحاج أحمد هذا، مميزا جدا لارتفاع أرضيته عن أرض الشارع فالصعود إليه بسلم من ست درجات، وسقفه عال، وتصميمه فريد، وقد عرفت هذا المنزل، وترددت عليه، ونمت فيه ليلة واحدة على الأقل، لكن ذلك حدث في فترة الصبا والشباب.

وفي سن الثلاثين وما بعدها سكنت بجوار "النادي" في كفر سعد في شقة مؤجرة منذ العام 1991 وحتى العام 2002 .
كان مبنى النادي في طريق جلالة الملك فاروق وهو ذاهب إلى الاحتفال الذي سيوزع فيه الأرض على الفلاحين في قرية الابراهيمية القبلية، وقام بوضع حجر أساس المبني عام 1950، وقد رأيت اللوحة التي كتب عليها تفضل جلالة الملك فوضع بيده الكريمة حجر أساس نادي كفر سعد، وكانت لوحة نحاسية، رأيتها بعد أن غاص المبنى في الأرض السبخة وأصبحت اللوحة قرب سطح الأرض، ولقد حفر النص عميقا ومليء بالرصاص، وكان فيها تاريخ اليوم بالهجري والميلادي. كانت اللوحة سليمة يوم رأيتها، لكن يدا عابثة أبت إلا أن تفسد اللوحة وتمحوها، فبعد سنوات قليلة ذهبت لكي أعاود النظر فيها، فوجدتها قد خربت. ففي زمن الجهل، الذي كانت اللغة فيه عاجزة بائسة، حيث لفظ "جلالة الملك" نوع من الشرك والواجب الديني يقضي بمحو هذا الشرك. هذا ما سمعته، وأنا أتحسر على ضياع اللوحة. ولم يكن من صنع هذا الصنيع القبيح إلا واحدا من عشرات ومئات، بل آلاف المتعلمين الذين ربتهم الجماعات الدينية، وقد حفر في ذاكرتي مسلك واحد منهم، وأنا أقول له في أحد شوارع كفر سعد "السلام عليكم" فيرد قائلا: "السلام على من اتبع الهدى"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى