ألف ليلة و ليلة سناء الشعلان - نجيب محفوظ يكتب ألف ليلة وليلة من جديد

قرّر نجيب محفوظ في لحظة تحدٍ أن يلد "ألف ليلة وليلة" من جديد بقلمه الخاصّة وبفكره الشّخصي،فأنتج لنا روايته الشّهيرة" ليالي ألف ليلة" لتكون محطّة فكرّية مهمّة عنده،وذلك بعد أن تشبّع من "ألف ليلة وليلة"،وقرأها في طفولته مراراً وتكراراً بالسّر مع أصدقائه دون أن يعرف أهله بذلك على حدّ تعبيره(1)،بعد أن فُتن بقدرة ألف ليلة وليلة على التعبير عن عالم بأكمله، بعقليته وبعقائده وبخيالاته وبأحلامه لا سيما أنّه قد استطاع أن يعبّر عبرها عن اهتماماته الكبـرى، ومزج فيها الواقعي السياسي بالتأملات الميتافيزيقية(2).
فرواية (ليالي ألف ليلة) فهي تقدّم تجربة مميّزة تخلط بين فنون الحداثة الغربية، وآداب العربية العريقة، فتخرج برواية هي نسيج وحدها، وعلامة على غاية ما يُرتجى من فنّ التلاقح الثقافي، ففي هذه الرواية يأخذ نجيب محفوظ ثلاث عشــرة حكاية لا رابط بينها في ألف ليلة وليلة، ويخلق بينها لحمة مكانية وزمانية وحدثية خاصــة، تتقاسم الشخصيات ذاتها، ويخضعــها جميعاً لتقنيات الرواية الحديثة من استخــدام الرمز والموتيفات المتكرّرة، وتيار الشعور، مما يضفي على الحكايات وحدة تمتصّ فلسفة نجيب محفوظ في الوجود والإنسان، وتقدّمها بطريقتها الخاصة(3).
فهذه الرّواية تقدّم حساسية مختلفة في تلقّي ألف ليلة وليلة، التي تأثر بها أشهر روائيين وقاصّي العالم وَفْق شــهادتهم الإبداعية(4)، فنجيب يقرأ العمل على ما يبدو طويلاً، إذ إنّه قرأه للمرة الأولى في طفولته المبكرة، وسرّاً، ثم استطاع أن ينتج رواية هي امتداد لألف ليلـة، وليسـت حكـاية من حكاياتها في الوقت نفســه. فقد قدّم روايـة حديثة، بتوليفـات روائيـة، مسـتخدماً التقنيات الروائيـة المعروفة،ومراعياً بالوقت نفسه خصوصية التجربة، وسمات العمل الذي يتناص معه في روايته، فقدّم رؤية جديدة لألف ليـلة القرن العشـرين، ضمّنها آراءه، دون أن يقطعها عن س ـياقها الجمالي، ومحدّداتـها الفنية، ودون أن يلغي بالوقت نفسـه حرّيته الإبداعية، وطاقاته التشكيلية للرواية.
ففي رواية (ليالي ألف ليلة) تطلّب توظيف المكان إغفال الزمن الذي تحيل إليه الرواية، حتى تتلاءم مع مكانية الليالي، وبذلك أصبح تعيين المكان وتحديده جغرافياً يتلخّص في الجملة الشهيرة "كان يا مكان"(5). وقد تحلّت ليالي الرواية بمرونـة مكانيـة لم تتحلَّ بها الليالي المشهورة، إذ في الروايـة تماسك في وحـدة المكان، إذ تقوم الأحداث جميعها في السلطنة، وهذا التـماسك والتلاحم في المكان هيّأ لشـخصيات الرواية "الاستمرارية عبر الحكـايات وحريّة الحـركة، ومخالطـة بعضها بعضاً كما لا يحدث في الحكايات الأصلية"(6)
أمّا المكان في هذه الرّواية فصفته الأساسيّة أنّه أسطوريّ متفلّت من الخيال، متماهٍ مع الأحداث الخارقة، والكائنات الخرافيـة. فهو مكان يعجّ بالملائكة أمثال التاجر (سحلول)، نائب ملاك الموت، الذي يسرح، ويمـرح في السلطنة، كذلك يعجّ بالعفاريت، التي تتدخّل في مجريـات الأحـداث، وتفـرض نفسها على المكان، لا سيما عندما يتعذّر الأمن والعدل، والطريقة الوحيدة لمنعها من التدخّل في مصائر البشر، والعبث بحياتهم، هي إقامة ميـزان العدل "على الوالـي أن يقيم العدل من البداية، فلا تقتحم العفاريت علينا حياتنا"(7).
كذلك قد تتدخل العفاريت الشريرة أمثال (سخربوط) و(زرمباحة) في تشكيـل أماكن أسطوريّة، مستخدمين قواهما الخرافية في ذلك. فكلاهما يقرّر أن يلـهو، ولـو كان ذلك على حساب البشر، فيروق لهما أن يلهوا بالأميرة (دنيـا زاد) شقيقـة (شهرزاد)، و(نور الدين) بائع العطور، لما رأياه من ملاحة وفتنة وشباب واستقامـة فيهما، فتفتّقت نفسـاهما الشـريرتان عن "فكـرة جديرة بإبليس نفسـه(8)، إذ قامـا بصنع مكانٍ خيالي في (دنيا الأحلام)، التي استطاعا أن يقتحمـاها بقـوةٍ عجيبـة مجهولة، وهناك جمعا (دنيا زاد) و(نور الدين)، وزوجوهما في "حفل سلـطاني سيكون أحد أعاجيب الترف والأ� �ّهة"(9). ثم مع الصباح فرّقوا بينهما ، وردّوهمـا كلّ إلى عالمه، (دنيا زاد) إلى جناحها في قصر أختها (شهرزاد)، و(نور الدين) إلى حجرة نومه المتواضعة في مسكنه القائم فوق دكّانه بحي العطور.لكنّ الشابين بقيا يحمـلان أثر هذه الليلة العجيبة، ويتحرّقان عشقاً،ويشتكيان ضنى الفُراق إلى أن تمّ لهما اللقـاء في دنيا الحقيقة لا الأحلام على يدي السلطان (شهريار)، الذي عرف بقصتهما اتفاقاً، فقرّر مساعدتهما، والجمع بينهما.
والمكان الأسطوري في الرواية ينفتح على أماكن أسطوريّة كثيرة، ففي حيّزه المكاني، الذي يتجاوز السـلطنة يقع جبل (قاف) حيـث يقيم (سنـجام) و(قمقام)(10)، كذلك يغشاه طائر الرّخ الأسطوري من وقت إلى آخر "الرّخ يطير من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمة الواق إلى قمة قاف"(11). وجبل (قاف) كمـا هو معـلـوم جبل أسطوري لا وجود له، وإن رُوي عن بعض السّلف أنّهم قالوا: "قاف جبل محيط بجميع الأرض، وكأنّ هذا والله أعلم من خرافات بني إســرائيل"(12). ونُقـل في الأثـر أنّه جبل أسطوري والسماء مركوزة عليه، إذ ينقل ابن كثير عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قوله "خ� �ق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها ثم خـلق من وراء هذا البحر جبلاً، يُقال له قاف، سماء الدنيا مرفوعة عليه"(13).
كذلك للجنّ أماكنها الأسطوريّة، فهناك وادي الجنّ، حيث الويلات والانتقام والبطش بالإنسان إذا وصل إليه، لذلك يتمنّى (معروف) الإسكـافي، الذي يطلّـق زوجته، بعد أن أرهقته عصياناً وضرباً في الماضي، أن يكون مآلها في ذلك الوادي، ويهدّدها بتسليط أحد العفاريت المسخّرين له بقوة خاتم (سليمان) عليها، لـينقلـها إلى وادي الجنّ "إن لم تذهبي في الحال حملك العفريت إلى وادي الجنّ"(14).
وقد تتدخّل الملائكة في تكوين أماكن أسطوريّة، يعجز البشر عن إيجاد مثلها، فنائب ملاك الموت (سحلول)، يتدخّل بإيعاز من جهة مجهولة للمساعدة في إخراج (جمصة البلطي) من مستشفى المجانين، ولما تعذّر ذلك بسبب حصانة الأبواب، فإنّه قام على الفور بشـقّ "نفق لا يستـطيع البشر شـقّه في أقل من عام"(15)، وبذلك ســهّل أمر هروب (جمصة) من سجنه.
واتجه (جمصة) من سجنه/مستشفى المجانين إلى مقامه المنعزل على شاطئ النهر، وَفْقاً لأوامر (سحلول). وذلك المكان هو ملتقى مكانين أســطوريين، وهما: سلطنة الليالي، والمملكة المائية، حيث يقيم العابد (عبد الله البحري) في "مملكة الماء اللانهائية(16)، وفي مملكته، التي تقبع تحت الماء، يعيش البشر بكلّ سهولة، ويُــجعل الحياء شرطاً ضمن شروط عشرة يجب أن تتوافر في حكّامها(17)، وهذا العالم المـائي، الذي له قيمه الرفيعة، يبدو لنا عالماً من عوالم اليوتوبيا.
وعالم اليوتوبيا، أو المدينة المثال يظهر في الرواية، (فإبراهيم السّقاء)، الذي يجد كنزاً بالصدفة، تتغيّر أحواله، من رجلٍ يعمل منذ صباه في نقل الماء، برزق محـدود وقلب قنوع، لا يأكل اللحم إلاّ في عيد الأضحى، ليغدو ملك عالــم يوتوبي يملكـه، ويدخل فيه بسهولة مع الفقراء.
فقد أنشأ مملكة وهمية، واختار لها جزيرة وهمية، وتوّج نفسه سلطاناً عليها، واختار من الحفاة الجياع وزراء وقادة ورجالاً لمملكته. وكانوا يلتقون جميعاً في الليـل في تلك الجزيرة، فينقلبون من صعاليك متشردين إلى رجال مملكة عظام، يأكلون ما يشتهون من الطعام، ويشربون من لذيذ الشراب، ويتبادلون الأحاديث في شـؤون المملكة، كلٌ وَفْق موقعه ودرجته. وقد اكتشف السلطان (شهريار) وجود هذه المملكة العجيبة اتفاقاً وهو في إحدى رحلاته الليلية التفقدية، وعرف حقيقة وجودها، وأخــذ منها العبرة، إذ تابع مسرحية محاكمـة جرتْ سابقاً في مملكتـه، فعرف الحـقيقة، وعاقب الم جرمين الحقيقيين "فضُربت أعناق المعين بن ساوى ودرويش عمران وحبظلم بظاظة، وعزل الفضل بن خاقان وهيكل الزغفراتي، وصُودرت أملاكهما(18).
فاختراع هذه المملكة الفاضلة، حيث السعادة والهناء والعدل، يذكّرنا بتلك اليوتوبيات، التي ظهرت تباعاً في المخيّلة الإنسانية. فأفلاطون كان أوّل من استدعى اليوتيبيات من العالـم الآخـر إلى دُنيانا في جمهوريّتـه ، وتأثّر به الفارابي في (آراء
المدينة الفاضلة)، كذلك ظهرت اليوتيبيات في ألف ليلة وليلة في عالم (عبد الله البحري)، الموجود في الماء، وكذلك في بعض العوالم التي زارها (السـندباد) في رحلاته. كذلك يتحدّث المسـعودي في (مروج الذهب)، والإدريســي في (نزهة المشتاق) عن جزر النحاس في بحر الظلومات، وعن الأرض التي يثمر شجرها نساءً.
"فاليوتوبيا تتأسّس على واقع بعيد متخيّل"(19)والبحث عن السـّـعادة المطلقة والحياة المثالية هو الهدف الدائم من ظهور اليوتوبيا عبر تاريخ الأدب الإنساني، مضافاً إلى ذلك "اعتراف مؤلفيها بقلقـهم على مصير كوكبنا الأرض(20). فاليـوتوبيـات في أكثر الأحيان هي خطط ومشروعات لمجتمعات تعمل بشكل آلي، ومؤسسات تصوّرها اقتصاديون وسياسيون وأخلاقيون(21)"لكنّها كانت الأحلام الحيّة للشعراء"(22).
فاليوتوبيا هي حلم الإنسان بالمكان المثالي. ولعلّه هو حلمه منذ أن خرج آدم من الجّنة "وعلى النقيض نشأت اليوتوبيا الضدّ في شكل الجحيم مصيراً للشـرير الذي انحرف عن تعاليم الجماعة في أثناء الحياة الأرضية"(23).
وتتكرّر اليوتوبيا مرةً ثالثة في رواية (ليالي ألف ليلة). فالمـلك (شهريار) يجد نفسه بعد أن ضرب صخرة بقبضته ضربات عدة أمام عالم أسطوريّ مفتوح تحت الأرض. فيستسلم للفضول، ويهبط درجات عدّة، ثم يشرع يسـير في نفـقٍ طويـل، يصل به إلى بركة صافية، تقوم فيما وراءها مرآة مصقولة، فيسـمع صوتاً يقول له "افعـل ما بدا لك"(24)،فيســتحم فيها،ولمّا يخرج من الماء، يجـد شبابه قد تجدّد ، فعاد شابّاً أمرد. فيهنأ بذلك، ثم يجد فتاة غاية في الحسن، فتخبره بأنّه سيكون العريس الموعود لمملكتهم الأرضيـة، وتشـير بيدها، فتُفتح بوّابة عظيمة، فيجـد "شهريـار نفسه في مدين� � ليست من صنع بشر، كأنّها الفردوس جمالاً وبهاءً ونظافةً ورائحــة ومناخاً، تترامى بها في الجهات والعمائر والحدائق، والشوارع والميادين المكلّلة بشتى الأزهار، وتنتشر فوق أديمها الزعفراني البرك والجداول، سكّانها نســاء، لا رجل بينهن، ونساؤها شباب، وشبابها جمال ملائكي(25).
فيتزوج (شهريار) من ملكتهم ساحرة الجمال، ويسعد بها، وتسعد به، ويقضي معها زمناً يقدّره بأربعين يوماً، ولكنّه يفاجأ عندما يعلم أنّه زمن مقداره مئة عـام. فالزمن في تلك المملكة العجيبة له ميقاته الخاص، ولا يعرف فيه البشـر الشــيخوخة أو العجز. لكن الفضول يحرم (شهريار) من هذه المملكة المثالية، إذ يهمّ بفتح الباب المحرّم فتحه، فيُطرد شرّ طرده من المملكة، ويجد نفسه من جديد إلى جانب الصخرة المدخل إلى ذلك العالم، وقد "تقوّس ظهره، وطعن في السّن"(26)، فيشرع في بكاء مرير.
أمّا الزمن في رواية (ليالي ألف ليلة) فيكتسب أسطوريّته من عدم تحديده، ومن إيغاله في القدم، ومن تعالقه مع زمن أسطوري آخر مفترض، وهو زمن حكايات ألف ليلة وليله. وهو زمن منكفئ على نفســه، مغلق، لا يحيل إلى زمن بعينه، وإن كان يحاول أن يربط بعض أزمانه بأحداث تاريخية مهمة، أو شــخصيات تاريخية حقيقية، إلاّ أنّه يبقى زمناً خاصّاً، مقطوعاً عن تسلسل الزمن التاريخي الخاضع للقيـاس والترتيب، إنّما هو زمن له سرعته الخاصة، ومحدّداته الذاتية.
وقد واءم نجيب محفوظ بين زمان الحكايا وزمان رواية (ليالي ألف ليلة)، فكان الزمن عنده مغفل الإحالة إلى تاريخ محدّد، إلاّ تاريخ الرواية نفســها، وبذلك غدا الزمان يتلخّص عنده في الجملة الشهيرة " كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان"(27).وهذا الزمن الأســطوري قد يتخلّى عن ناموسه الخاص، وقوته الداخلية، ويستسلم لقوى خارجية أخرى، تتحكّم بســرعته. فالعفريت (قمقام) يســطو على الزمن، ويتحكّم به، ويجريــه وَفْق حاجته. فعندما ألفى (صنعان الجمالي) يكاد يُفتضح أمره بعد أن تصــدّى لطفلة صغـيرة، وأغتصـبها بوحشــية، وقتلها، أراد أن ينقذه.فنقله بومضة بصر اخترقت عنصر الزمن والمكان،الذي هو فيه إلى باب داره."شعر بأنّه يتحرّك في فراغ في عالم شديد الصمت حتى سمع الصوت مرّة أخرى:لن يعثر لك أحد على أثر، افتح عينيك تر أنّك واقف أمام باب دارك، ادخل آمناً، إنّي منتظر"(28).
كذلك الزمن الأسطوري في الرواية يتّسع، ويتمدّد ليستوي على مقدارٍ كبيرٍ من السنين.فالعفريت (سنجام) موجود في القمقم الذي سجنه فيه النبي سليمان منذ ألف عام(29)، كذلك العفريتان (سـنجام) و(قمقام)، وهما صديقان حميمان لم يلتقيا منـــذ ألف عام(30)، وهما يريان أنّ فترة زمنية مقدارها ألف عام ليست بالفترة الطويلة قياساً لعمرهما الخرافي "ما أقصرها – ألف سنة- بالقياس إلى العمر، وما أطولها إذا انقضتْ في قمقم"(31).
وهذه النسبية والتفاوت في الشعور بالزمن والإحساس به تحطّم الزمن الطبيعي في الرواية، وتعلي من ظهور الزمن الأسـطوري، المتفاوت، غير القابل للقياس المحدّد أو الثابت. فالزمن في سلطنة (شهريار) في الرواية غيره تماماً في المملكة السـفلية، التي دخل إليها. فقد قدّر أنّه احتاج إلى ساعة للهبوط من الأرض إلى باطنها عبر ممر إلى المملكة السفلية، لكنّ الحقيقة كانت غير ذلك. "فســألته صبية ملائكية –أيّ شهريار- على بوابة المدينة: متى تركتَ بلدتك؟
- منذ ساعة على الأكثر.
فما تمالكتْ أن ضحكتْ قائلة: ما أضعفك في الحساب؟!"(32)
كذلك قدّر (شهريار) زمن بقائه مع زوجته ملكة ذلك العالم الســفلي بأيام معدودة، مع أنّه كان قد قضى معها مئة عام. "وسأل زوجته مرةً، وهو يداعبها:
- متى يكون لنا ولد؟
فتساءلت في ذهول:
- أتفكّر في ذلك، ولم يمضِ على زواجنا إلاّ مائة عام؟
- مائة عام فقط؟
- بلا زيادة يا حبيبي.
فتمتم:حسبتها أياماً معدودة..
قالتْ بأسف:
- لم ينمحِ الماضي من رأسك بعد"(33)
ولعلّ أسطوريّة الزمن في ذلك المكان، وعدم خضوعه لناموس الطبيعـة، واختلاف سرعته تماماً عن سرعته في عالم السلطنة، جعل (شهريار) يرتدّ شابّاً بمجرد أن انغمس في بركة ذلك العالم، فعادتْ به عقارب الساعة إلى الوراء "فرأى نفســه جديداً في إهاب فتى أمرد، قويّ الجسم متناسقه، بوجه ينضح فتوّة وشباباً، وشــعر أسود مفروق، وقد طرّ بالكاد شاربه"(34)، كما جعله يرتدّ عجوزاً مسناً، مقوّس الظهر بمجرد طرده من تلك المملكة، وعودته إلى سلطنته.
وقد ينهض السحر وقوى العفاريت بدور مؤثر في تكوين دورة الزمن الطبيعية، والتدخّل في عجلة جريانها، بحـيث تجمّد عند لحظة محددة إلى حين انتهاء الغايــة من ذلك، ليستردّ من جديد مسيرته الطبيعية. فالعفريتان (سخربوط) و(زرمباحة)، يتدخلان في الزمن، وينزلقان إلى زمن الحلم، فيعبثان به أنّى أرادا، فيجمـعان الأميرة (دنيا زاد) أخت (شهرزاد)، و(نور الدين) بائع العطور في حلم عجيب، مقداره ليلة، فيقيمان لهما زفافاً سلطاناً عظيماً، يحضره مدعوّون ومدعوّات، ومطربون ومطربات.
ثم تكون خلوة العروسين، "وانتظرتْ في المخدع آخر الليل في ثوب محلّى بالذهب والمرجان والزّمرد، ودّعتها أمّها وأختها شهرزاد، فانتظرتْ وحيدة في المخدع، وشرد ذهنها، لا يشغلها إلاّ ترقّبها القلق وقلبها الخفّاق، انفتـح الباب، دخـل نور الدين في أبهى حلّة دمشقية وعمامة عراقيّة ومركوب مغربي، تقدّم منها كالبدر في تمامــه، وجلا القناع عن وجهها، ركع على ركبتيه، ضمّ ساقيها إلى صدره، تنهّد قائلاُ: ليلـة العمر يا حبيبتي، ومضى ينزع ملابسها قطعة قطعة في صمت المخدع المليء بالألحان الباطنة(35).
وبانتهاء الحلم انتهى الزمن المثبّت أو المقتطع من صيرورة الزمن، الذي يحتوي الرواية، إلاّ أنّ (دنيا زاد) و(نور الدين) بقيا يشــعران بحميمية تلك الليلـة الحلم، التي تركتْ في قلبيهما عشقاً، ولوعة لا تنطفئ، كما تركتْ على غير عادة الأحلام نتيجة حقيقية، إذ حملت (دنيا زاد) في الواقع من (نـور الدين) بعد تلك الليلــة الحلم، وخشيت أمّها أن يفتضح أمرها، فأقدمت على "إجهاض ابنتها مستغفرة ربّها"(36).
وقد لجأ نجيب محفوظ إلى تقنية التلخيص؛ لاختصار الزمن، الذي يفترض أن يستغرق صفحات كثيرة إن اســتوفى جزئياته، لا سيما أنّ لا فائدة من ذلك على مستوى تنمية الحدث، فاختصر بجمل قليلة أحداثاً وأزماناً كثيرة. "ســبحت روح صنعان الجمالي في سماء مقهى الأمراء فغشى روّادها الكدر، شــهدوا محاكمته، سمعوا اعترافه الكامل، رأوا سيف شبيب رامة السيّاف وهو يطيح برأســه، كانت له منزلة طيبة بين التجّار والأعيان، وكان من القلّة النادرة التي يحبّــها الفقراء، وأمام أؤلئك وهؤلاء ضُربت عنقه، وشُرّدت أسرته، ذاعت قصته على كلّ لســان، هزّت أفئدة الحي والمدينة، اس تعادها السلطان شهريار مراتٍ ومراتٍ"(37)
والصّراع في هذه الرّواية يبدأ من الصّراع مع العفاريت الذي يستمر على الرغم من هزيمة (صنعان) أمام العفريت (قمقام)، ودفعه حياته ثمناً لذلك، وتبدأ حلقة جديدة من الصــراع مع العفاريت في الليالي. ويربط الناس ظهور العفاريت بعدم وجود العدل، إذ تتدخّل العفــاريت، لكي تُجبر الناس على الثورة ، وقتل رموز الاستبداد ، وإجبار السلطة على تغير ســياستها،وانتهاج العدل والمساواة نبراساً "على الوالي أن يقيم العدل من البداية، فلا تقتحم العفاريت علينا حياتنا"(38). (فجمصة البلطي) كبير الشرطة يصطاد قمقماً، وعندمــا يفتحه يجد نفسه أمام عفريت غاضب، اسمه (سنجام )، يريد أن ينتقم بعد أن مــلأه السجن بالحنق والرغبة في الانتقام.(39)،ولكننا نجده يضرب صفحاً عن الانتقــام من جمصة، الذي ذكّره بأنّه كان الوسيلة إلى خلاصه(40). ولكن الصـراع مع العفريــت يبدأ منذ أوّل يوم، إذ يشرع العفريت يثير شغباً وفساداً في الحي، وتتعاقب حــوادث قطع الطريق "داخل سور الحي وخارجه كثرة مزعجة، فنهبتْ أموال وســلع، وأُعتدي على رجال"(41). ويفشل (جمصة) في العثور على الفاعل، على الرغم من أنّه "نشر الدوريات نهاراً وليلاً، وتفقّد الأماكن المشــبوهة بنفســه"(42)، فيهدّده حاكــم الحي( خليل الهمذاني) بالعزل إن لم ينجح في القبض على � �لجناة، ولكنّه كان يعــلم أنّ لا سبيل إلى ذلك، إذ كان العفريت هو الجاني العابث.
ودخل (جمصة) في صراع نفسي كان العفريت سبباً فيه، فقد جعله يدرك أنّه ليس أكثر من أداة بطش ظالمة في يد اللصوص الحقيقيين، فهو "لص قاتل حامي المجرمين ومعذّب الشرفاء، نسي الله حتى ذكّره به عفريت من الجـنّ"(43)، فيقـرّر لساعته أن يبطش لأوّل مرة في حياته باللص الحقيقي، فيضرب بالسيف عنق الحــاكم في أوّل لقاء لهما معلّلاً ذلك بتـحقيق "إرادة الله العــادلة"(44)، ولكنّه يواجه الحكــم عليه بالإعدام، الذي يُنفّذ سريعاً، ولكنّ المارد (سنجام) يقلب الصـراع لمصلحة (جمصة)، ويقرّر أن يساعده، وكأنّه استطاع أن يحرّره من قيوده، ويجعل منه ثائـراً على السلطة الظالمة، وبذلك استحقّ الحياة وَفْق وجهة نظره، على خلاف (صنعان الجمالي)، الذي لم يجاوز أن يكـون قاتـلاً مرتـزقاً، ولم يؤمـن بقضيتـه، لذا فقد دفع حياته ثمناً لهبوط همّته، وخمول فكرته. فحوّل (سنجام) (جمصة) إلى رجلٍ آخر، في حين قتل السّياف صورة من (جمصـة) من صنع يديه(45)، عندها مضى (جمصة) يتعبّد لله، ويحقّق العدل بطريقته، إذ اغتال الكثير من رموز التســلّط والقهـر في الليالي، أمثال (بطيشة مرجان) كاتم السّر، و(إبراهيم العطّار)، و(كرم الأصيـل) و(عدنان شومه).
وعندما أُفتضح أمره في نهاية المطاف لم يعدم العون من قوة خارقة أخرى، إذ وجد ساكناً من سكان الماء اسمه (عبد الله البحري)، يطلــب منه أن يتجــرّد من ثيابه، وأن ينزل إلى الماء، ففعل (جمصـة) ذلك، فأُبدل من جديــد بســحنة جديدة، لا هي وجه (جمصة البلطي)، ولا وجه عبد الله "وجه قمحي صافي البشرة، ولحية مسترسلة سوداء، وشعر غزير ينسدل حتى المنكبين، ونظرة عينين تومض بلغة النجوم"(46).
وانطلق من جديد في رحلة جهاده، لا يصــدّه صادّ، ولا تقعد به همّة، حتى تحقّق له مراده، وشهدت السلطنة عهداً جديداً من عهود العدل والمــساواة، إذ كان الجهاد والثورة على الظلم والبغي، والإيمان بقضية الحرية هي المفتاح السحري للانتصار على العفاريت، التي تقتحم عوالم البشر عندما يعزّ العدل، وما الانتصــار عليها إلاّ حصيلة الانتصار على النّفس، والتعالي على رغبتها وشهواتها ومزالقها وضعفها، والتسامي على الشهوات، وصولاً إلى الحريّة والعدل، المطلبين المقدّســين في حياة كلّ من أراد أن ينتصر على عفريت، وأن يلزمه حدّه ومحفوظ قد يهبّ الخلود والشــباب لبعض أبطال روايتــه، ثم ينزعه من جديد، وكأنّه يقول إنّ تلك الشخصيات لا تســتحق الخلود؛ لأنّها لم تحقّق ســبب الخلود، وهو العمل، والقيام بالواجب. فالســلطان (شهريار) في رواية (ليالي ألف ليلة)، يحصل على الخلود والشباب بالصدفة، ودون أن يســعى لذلك. إذ إنّه يهجر عرشه، ويتركه لزوجته (شهرزاد) ولولديهما، ويسوح في الأرض، إلى أن وصل إلى موضع اللسان الأخضر، فسمع رجالاً يبكون حول صخرة، بعد أن عجزوا عن تحريكها من مكانها، ومع بزوغ الفجر غادر جميــع البكّائين مكانــهم، وهم "يتواعدون على اللقاء غداً ثم مضوا نحو المدينة كالأشباح"(47).
وقد قدّر (لشهريار) أن يحرّك الصخرة بقبضته، فوجد أسفلها ســلماً يقود إلى عالم أسطوري يبدأ ببركة صافية، تقوم وراءها مرآة مصقولة، وسمع صوتاً يقول له:
"افعل ما بدا لك"(48)، فما كاد يســتحم فيها، وهو ما بدا له أن يفعل حتى ارتدّ "فتى أمرد، قوي الجسم متناسقه، بوجه مفروق وقد طرّ بالكاد شاربه"(49)، ثمّ زُفّ عريــساً إلى ملكة ذلك العالم الأسطوري، الذي يعجّ بالنســاء الحســناوات، ولا رجل فيه، ونعم في حياته معها، إلاّ أنّه خسر شــبابه التليد، وخلوده الســعيد؛ لأنّه لم يلتزم بشرط البقاء في ذلك العالم، وحاول فتح الباب المحرّم فتحه، فطُرد شرّ طرده، وارتدّ عجوزاً، متقوّس الظهر، سرعان ما انخرط في البكاء شأنه شأن البكّائين(50).
(فشهريار) الذي لم يحسـن سـياسة ملكه، وواجـهه بالظلم أوّلاً، ثم بالهرب ثانياً، لقي الفشل كذلك في عالم الخــلود الأســطوري، لأنّه باختصــار اعتاد الفشل، ولم يعدّ العدّة للنجاح، وللحفاظ على ما يملك.


الإحالات والمراجع والمصادر:

1- حسين حموده: حوار مع نجيب محفوظ: ألف ليلة وليلة أحاطت بالحضارة الشرقية، فصول، مج13، ع 12، القاهرة، 1994، 378.
2- نفسه:378.
3-- رشيد العناني: نجيب محفوظ، قراءة ما بين السطور، 82.
4- عبد الرحمن يونس: ألف ليلة وليلة في آداب الأمم، مجلة الكويت، ع272، الكويت، 2006، 50-51.
5- سعيد شوقي سليمان: توظيف التراث في روايات نجيب محفوظ، 197.
6- رشيد العناني: نجيب محفوظ، قراءة ما بين السطور، 82.
7- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، ط1، مكتبة مصر، القاهرة، 1982، 76.
8- نفسه:93.
9- نفسه:93.
10- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، 41.
11- نفسه: 262.
12- ابن كثير، الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت774هـ): تفسير القرآن الكريم، ج4، ط2، دار المعرفة، بيروت، 1987، 236.
13- نفسه: 237.
14- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، 234.
15- نفسه: 111.
16- نفسه:78.
17- نفسه:174.
18- نفسه:213.
19- شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، المغرب، 1997، 65.
20- ماريا لويزا برنيري تقول في كتابها المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة عطيات أبو السعود، ط1، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1997، 9: "كان توماس مور أوّل من صاغ كلمة يوتوبيا أو أوتوبيا في نطقها اليوناني، وقد اشتقّها من الكلمتين اليونانيتين ou بمعنى لا، و Topes بمعنى مكان وتعني الكلمة في مجموعها ليس في مكان".
21- يوسف الشاروني: يوتوبيا الخيال العلمي في الرواية العربية المعاصرة، عالم الفكر، مج29، ع1، الكويت، 2000، 209.
22- ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، 455.
23- يوسف الشاروني: يوتوبيا الخيال العلمي في الرواية العربية المعاصرة، 186.
24- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، 264.
25- نفسه: 266.
26- نفسه: 269.
27- سعيد شوقي سليمان: توظيف التراث في روايات نجيب بمحفوظ، 197.
28- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، 23.
29- نفسه: 39.
30- نفسه: 40.
31- نفسه: 40.
32- نفسه: 265.
33-نفسه: 267.
34- نفسه: 264-265.
35- نفسه: 94.
36- نفسه: 35.
37- نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة، 76.
38- نفسه: 39.
39- نفسه: 39.
40- نفسه: 45.
41- نفسه: 46.
42- نفسه:43.
43-نفسه:51.
44- نفسه: 57.
45- نفسه: 60.
46- نفسه: 88.
47- نفسه: 263.
48- نفسه: 264.
49- نفسه: 265.
50- نفسه: 269.


- عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى