عبدالرحيم التدلاوي - بعض الجوانب الفنية والقضوية في مجموعة "دينوغرافيا" لتوفيق بوشري

صدرت مجموعة "دينوغرافيا" للقاص توفيق بوشري عن مطبعة ووراقة بلال في طبعتها الأولى سنة 2019، وتشتمل على ستين نصا ممتدا على مساحة طبوغرافية تبلغ تسعا وستين صفحة.
نصوص قصيرة جدا بسطت على الصفحات بأشكال مختلفة، تتخذ في معظمها طابع القصيدة الشعرية المعتمدة على نظام السر الشعري. وهي بذلك تدخل في حوار جدلي صامت مع بياض الصفحة تمددا وتقلصا. وإذا كانت النصوص جميعها قد احترمت جانب القصر الذي يجعلها لا تتمدد، حيث تأتي في وسط الصفحة محاطة بالبياض وكأنها حبات رمل في بحر هائج، فإن نص "فارس بني شرخ" ص47، قد سمح لنفسه بأن يمد رجليه إلى الصفحة الموالية دون أن يعني ذلك عدم انتمائه للقصة القصيرة جدا؛ فاعتماده نظام السطر الشعري وقف وراء ذلك، ولو اعتمد، ككل النصوص الأخرى، نظام الجمل المتتابعة لكان قصيرا جدا.
العنوان:
يولي المبدعون بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم أهمية قصوى للعنوان؛ لأنهم يدركون قوته وإغراءه في جذب انتباه القارئ، ونقله من عالمه المادي إلى عالم الكتابة الرمزي إذا ما توفرت لديه القدرة على الإثارة لغرابته أو لشاعريته أو لانزياحه وخرقه للمتعارف عليه. وقد جاءت المجموعة قيد القراءة مثيرة للاستغراب بعنوانها العام القادم من داخل العمل؛ كونه يشكل عنوان نص داخلي أولا، قبل أن يبسط ظله على باقي النصوص، يضمها بين جناحيه، ويحتويها معنى ودلالة. ف"دينوغرافيا" جاءت على غرار جغرافيا وفونوغرافيا ومونوغرافيا وطوبوغرافيا وببليوغرافيا وغيرها من المصطلحات التي تنتهي ب"غرافيا" المشيرة إلى ما يعبر عنه بالعلامة أو الرسم؛ هذه الغرابة تحثنا على نجنيد طاقاتنا ومعارفنا للقبض على دلالة ممكنة أو محتملة لهذا المصطلح الجديد الذي نحته القاص، وارتضاه لقصته الداخلية أولا، ولمجموعته ككل.
نميل إلى أن القصص ترسم منحى تفكير الشخصيات، وتعبر عن أشكال تدينها، وتبرز طرق تفكيرها، وأنماط سلوكاتها تجاه نفسها وتجاه الآخر وظواهر الحياة، وتظهر المخفي والمسكوت عنه، بأسلوب ساخر يعتمد على المفارقات الصارخة في ما يشبه مطرقة تسعى إلى تكسير المتكلس والثابت بغاية إعادة البناء من جديد.
وإلقاء نظرة سريعة على العناوين الداخلية ستقودنا إلى العثور على عنوان آخر منحوت من طرف القاص للتعبير عن فئة من الناس ارتضت لنفسها التسمر قرب الحيطان لمراقبة غيرها، أو للتحرش بالفتيات؛ إنه "جداريزم"، إضافة إلى وجود عناوين نحت باتجاه الغرابة من مثل "فارس بني شرخ" الذي يمكن اعتباره محاكاة ساخرة ل"فارس بني عبس". وإذا كانت معظم العناوين مفردة نكرة فإن هذا لم يمنع من حضور عناوين ذات تركيب إضافي لغاية التعريف والتخصيص، أو موصوفة أو متبوعة بشبه جملة من الجار والمجرور؛ مما يفيد التنويع لغايات فنية وجمالية ومعنوية.
جاءت نصوص المجموعة قصيرة الحجم بفعل التكثيف والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والمقاطع المناسبة مبتعدة عن الاستطراد والوصف والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها تشويقاً وتأثيراً. وهي صفات تدرج المجموعة ضمن القصة القصيرة جدا، كونها جنسا أدبيا يعتمد على التكثيف، والمفارقة، والإضمار، والحجم القصير، واستعمال جمل سردية بسيطة،.. كما أنها تتكئ على الحكائية، والتناص، والإيحاء المكثف، والتقتير اللغوي.

ما هو التكثيف ؟
تتعامل القصة القصيرة جدا مع اللغة من منظور التكثيف الحاد، فتغدو لغتها محدودة جداً من حيث عدد الكلمات. لكنها في الوقت نفسه لغة تحيل إلى عالم شاسع من خلال الإيحاءات والدلالات!!
ونعني بتكثيف القصة اختزال الأحداث، وتلخيصها، وتجميعها في أفعال رئيسية، وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، وعن الأوصاف المسهبة
فالتكثيف من أهم عناصر القصة القصيرة جدا.
هذا، وتعتمد معظم قصص توفيق بوشري على التكثيف القصصي، والإيجاز في تفصيل الحبكة السردية ، بفضل التركيز على الاستهلال الوجيز، والعقدة المركزة، مع نهاية تنفتح على التخييل القرائي، الحاض على البحث عن التأويلات الممكنة، بفعل التفاعل الضمني بين النص والمتلقي، كما في قصة"منطق" ص30.
فقد وظف في النص نقط الحذف والتعجب والاستفهام، كما أنه قسم إلى فقرتين، تعبر كل واحدة عن حدث محدد، ففي الأولى البوح المصحوب بالمنع والمتبوع بالخرق، وفي الثانية يأتي سؤال المعرفة مشفوعا بالجواب المثير للدهشة:
حكى له سرا...
إياك أن تخبر أحدا !
لم تمر سويعات حتى أفشاه
وبلا حلاج !
**
_ لم فعلتها !
_ لكي لا تتوقف الحياة !
نص يعبر عن خاصية التكثيف والاختزال السردي؛ وذلك بسبب قصر الجمل: حكى له سرا، و إياك أن تخبر أحدا، وكثرة الفواصل المفرملة: نقط الحذف الثلاث، وعلامات التعجب، والفصل بين فقرتي النص رغم قصره الشديد.
التكثيف في هذه القصة يعد عنصرا حيويا بما تنطوي عليه من ثنائيات؛ التحذير والخرق، السر بصفته عنصرا خاصا، والإفشاء المفضي إلى التعميم مما يستوجب العقاب، تستحضر تلك الثنائيات والمجازات ، لاستخراج الغائب وإظهار المضمر، والإمساك بالمحتمل القابع خلف لغتها ودلالاتها المباشرة .
الشخصيات :
يستغني القاص، كما كتاب القصة القصيرة، عن ذكر أوصاف الشخصية وتحديد ملامحها الفزيولوجية والنفسية ، وعياً منه بضيق مجالها في القصة بل يكتفي بالتلميح والإشارة ، مع ميل إلى استعمال الضمير فقط ، ولعل ذلك يعد من آليات تحقيق التكثيف كذلك، وهذا ما لاحظناه في عدد من قصص المجموعة حيث الإكثار من الضمير الذي يحيل على الشخصية كما في قصته "يقظة" 35، ، على سبيل المثال، لا الحصر؛ فقد وظف فيها ثلاثة ضمائر: هي وهو وهما الجامع بين الضميرين السابقين في لحظة تبادل أنخاب الحب، ثم اسم الحب الذي يشعر بالوحدة جراء عدم الاهتمام به. هي لقطة ذكية لمشهد عامر بالزيف، تمور بالمفارقة، وتعبر عن انتقاد السارد للمشاهد الرومانسية الخالية من المشاعر الصادقة.
القفلة:
لابد أن تكون متنوعة الأساليب والتراكيب والصيغ . و مفاجئة للقارئ تخيب أفق انتظاره. وأن تكون مضمرة في شكل بياضات فارغة يملأها المتلقي بتأويلاته الإدراكية. مع شرط أن تكون غامضة وموحية ورمزية ، تستوجب من القارئ ممارسة لعبة الافتراض والتخييل والتوقع والاستكشاف.
فنص "دموع المستقبل" ص46، مفتوح على تأويلات متعدد نرا لخصوبته، ولقفلته المراوغة والغامضة التي تنشط ذهن المتلقي لفهم أبعادها. إن النص من عنوانه مرورا بجملته الافتتاحية حتى بلوغ نهايته يجعل المشترك أرضية تفاهم بين السارد والمتلقي، يقوم فيها الأول بإطلاق بعض الإشارات الموحية حتى لا يضيع الثاني، وفي الوقت نفسه تحثه على ملء البياضات واستنطاق العبارات بغاية فهم النص وإدراك أبعاد القفلة المثيرة. يقول:
بكت وانتحبت بشدة
لم تكن تحبه
كما أنه لم يترك لها شيئا
كانت صغيرة بعد،
تفكر: رصاصتان قالتان
وذئاب بلا عدد..

العجائبي:
بعض النصوص تميل إلى العجائبية حيث يتداخل فيها الواقع بالخيال، ويمتزج فيها المرئي باللامرئي، ولا تخضع لقوانين العقل واشتراطاته المعروفة. من ذلك قصة "وجه لعملة واحدة" ص38. فالرجل يحلم باختراق المرآة على غرار بل الفيلم الذي عبر الجدار بفضل تعويذة تلاها.
ونص "جسارة" ص60، حيث تمت أنسنة الموت بإسناد أفعال إنسانية له من قبيل: يلهث، ينشف عرقه، مع إفساح المجال له لكي يتحدث معبرا عن مسيرته في قبض الأرواح.
الميتاسرد:
تتخذ بعض النصوص مسألة الإبداع القصصي أو الشعري موضوعا لها، بغاية الكشف عن آليات اشتغالها، وتعرية الأهداف من ورائها، كما في نص "صدى الريح" ص18 الذي يرصد فيه السارد ومن ورائه القاص، فئة من كتاب الموضوة الذين يركبون على الموجة لتحقيق الشهرة، كتاب لا قناعة لديهم سوى مجارات موضوعات اللحظة الراهنة، والانتقال إلى أخرى حين تخبو السابقة.
والأمر نفسه في قصة "روتين" ص 5 و قصة "احتفالية" ص37 وقصة "عنة" ص63 الساخرة من العنوان إلى آخر النص.
الجانب القضوي:
عالجت الإضمامة هموم الإنسان وتطلعاته ورؤاه وانفعالاته وصراعه مع ذاته ومع واقعه، كذلك مشاكل المجتمع وقضاياه وما يعتمل فيه من آمال وطموحات، أو هزائم وانكسارات رغبة في تحقيق التغيير، مع استحضار موضوعات الضياع الوجودي والحب والنفاق.. .
وتتميز قصص المجموعة بقدرتها على اقتناص لحظات طريفة من واقعنا المعاصر بما يعج به من مفارقات وتناقضات، ويقدمها بسخرية مرة، وبدرامية طورا، ولكنها تستند جميعها إلى توليد المفارقة والانطلاق من هذه السمة لتشكيل متخيلها السردي المتميز.

الخرافة:

يصر السارد على القذف بعيدا بمتلاشيات الماضي من خلال تطهير العقل من الأوهام والترسبات الخرافية التي بقيت عالقة به لمدة قرون كما في نص "مصير" 12، يقول:
وأخيرا تخلص من التميمة
**
طوق بها عنق ابنه الصغير
لتحفظه..
مما حفظ قبل أباه !

لاحظوا كلمة، أخيرا المسبوقة بالواو، والمشفوعة بفعل: تخلص؛ لتدركوا أنها كلها باطلة ومحض افتراء، ومسعى خائب، فما أتى بعدها، رغم الفاصل العلامي بينها وبين الفقرة الموالية. فلم يكن هناك فاصل وقطيعة بل هناك استمرارية وتواصل. فعلا، تخلص الرجل من التميمة رمز التخلف والخرافة، لكنه طوق بها ابنه رمز المستقبل لتحفظه مما حفظت أباه. ولا حظوا معي اللهجة الساخرة من خلال التناص مع الآية القرآنية: {بما حفظ به الذكر الحكيم}، لتلمسوا أن التناص لم يأت لتعضيد دلالة النص بل ليزري بها وبمسعى الرجل غير القادر على التخلص من الفكر الخرافي. فالتضاد بين الآية والفعل الخرافي بينة، ومن ثم كان التناص ثر المعنى ساخر المرمى. هذا، وقد جند النص التكرار لتأكيد المعنى وتقويته، فتكرار كلمة "الحفظ" في الماضي والمضارع كان بغاية إفراغها من دلالتها الوقائية لتحمل دلالة مضادة ومناقضة لها.
النفاق:
و في إطار تعرية النفاق، تقوم قصة " العود الأبدي" ص 62 على فضح بعض المناضلين ؛ فشخصية النص ليست معارضة بالفعل، ولا تمارس النضال الحقيقي والصادق، والمبني عن قناعة فكرية بقدر ما هي مؤشر على ابتزاز سياسي عبر الشارع والناس. هذا العنوان النيتشوي رحل إلى النص للسخرية من فئة المنافقين الذين اتخذوا النضال وسيلة للكسب والابتزاز.
وقس على ذلك نص "قناع" ص21، حيث يسقط السارد قناع الزيف عن وجه مدعي المعرفة، الديمقراطي الزائف.

الكبت الجنسي:
يرصد القاص أفعال الناس الجنسية المعبرة عن حرمانهم، وتعطشهم لإرواء نهمهم ولو على حساب عقولهم، كما في نص "الغول" ص31، يقول:
كانت أول مرة
يشاهد فيها امرأة عارية
اشتعلت نار مهولة رعناء
انتقل العقل إلى رحمة الله..
فالعنوان عتبة مثيرة لشهوة السؤال عمن هو هذا الغول، لكن النص يخيب انتظار القارئ لكونه يتحدث عن نوع من الغيلان غير تلك التي سكنت الحكايات ونفوسنا؛ إنه غول الجنس بفعل الكبت.
الديوثية:
وفي المجال الجنسي نجد نص "مبدأ" ص 29، يرصد الزوج خيانة زوجته له، فتتحرك في نفسه قيمة الغيرة، فيسارع إلى إلحاق العقاب بها كثور هائج، لكنه يتوقف غير قادر على الفعل لعجز فيه، معلقا ديوثيته على مشجب المبادئ. يلاحظ أن العنوان جاء ساخرا من سلوك الزوج لا مادحا له. ففعله الفاضح عجزا يسير ضد المبادئ التي أقرتها المجتمعات.

خاتمة:
يلامس القاص، في كلّ نصوصه القصيرة جدا، الواقع النفسي والاجتماعي بالإشارة، وبالقليل من الكلام والمنفتح على أمداء تأويلية فسيحة. يكتفي السارد بالإيحاء والرمز، مُفسحا المجال لتعدّد القراءات، و تنوع الفهم. نصوص مجموعته تشيد عوالمها التخييلية بدهشة تسمح للمتلقي بالاستمتاع والتفاعل الإيجابي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى