أحمد إبراهيم أحمد - رسائل لم ولن تصل.. قصة قصيرة

الرسالة الأولى(و)
الطريق

"الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة "
حتى تدركون طبيعة ما أعيشه، ولماذا تدركون؟ أنا أضع معادلاً لشحنة داخلي؛ فهل هذا حقيقي؟ هل أكتب لكم أم لي؟ أهو هروب من التوتر أم شحن لجديد؟ لا أعرف؛ سـأكتب عن رحلة في طرق عادية.
أأحكي الذهاب أم العودة؟ أعتقد أن العودة بما تحمله من خيبة، والغراب محمل لأمه بخيباته جديرة بالرواية، فبعد أن نشرب الزيف للثمالة، ونتوضأ، ونؤدي طقوساً وثنية ولاءً لإمبراطورتينا الغراء؛ مانحة العيش، تبدأ السيقان في دبيب منتظم (رغم الفوضى الرهيبة) وتبدأ فوضى هائلة، فأحاول الخروج من قطيع الرقص الوثنيّ، فأنجح لأجدني توافقت وقطيع آخر، وكلما حاولت الخروج دخلت؛ وكلما هربتُ أُسرت حتى سئمت.

كان البدء خروجاً من باب ضيق لممر كابي؛ لدرجات تؤدي لسرداب بارد، يُفضى لباحة رمادية، تنتهي بمخرج يشبه فرج داعرة عجوز تغضن، فانحني لأخرج للضوء، فيصلب عيناي حائط شاهق، تبرقشه سحب ودخان، فتتدحرج نظراتي فوق الجدار المليء بالندوب البنية السوداء؛ كل ندبة فرج عجوز يبول البشر، فيصير لا مفر من مواجهة حقيقة أني على طريق طويل مزدحم، تشقه مُدى قاسية ملتوية، وتسير وسطه مخلوقات آلية رهيبة، تبتلع البشر ثم تقيئهم في قرف، فيندفعون في رعب إلى أكتاف الطريق يمتطونها، ويبدؤون في الدبيب.
تمردتُ على الدبيب، وانطلقتُ راقصاً اقطع المسافات المـخـطـطة، ساخراً مـن القطعان، فنظرت لي قطعة حجر في دهشة، وازداد بريق الشمس، وانسحب الرماديٌّ حاقداً، وأطل السماويُّ ففرحت، وهزني ميلاد السماء، ففتحت ذراعاي أحتضن الكون وأنشق الهواء، وأحسست للمرة الأولى أني أحب الهواء، بينما رمقني الرماديُّ شذراً، وأتى مخلوق آلي، تهامس مع الرمادي، فزاحم الرمادي السماوي ببط وإصرار، فخفت، وحين هزّني الخوف، تلقفتني المُدى وأسقطتني، لتمر عجلات الآلي فوق رقبتي، وتفصل رأسي عن جسدي، ثم تبتلع البشر وتقيئهم من أجنابها وأنا منطرح مقطوع الرأس، ينساب دمي في دفقات لزجة، تتماسك حتى تصير جيلاتينية القوام، فالتم حولي بعض القطعان بعدما غادر الآلي بما ابتلعه من البشر، ولم اتبين هل يضحك أم يئن من الشبع؟ فاقترح البعض أن يغطيني بالورق حتى يأتي مسئول القطيع، وترائي لآخرين أن ينقلوني لجانب الطريق، وتساءل البعض إن كان ممكناً إنقاذي؟ فسخر ساخرون.
كثر اللغط والجدل، فوجدت من سوء الأدب الاستمرار فيما أنا عليه بعدما تأكد لي من كلام قانوني بالقطيع أني مخطئ إذ حاولت أن أكون أكثر سعادة وتمايزاً عن القطعان، وتأكد لي أني كنت أريد أن أسعد، فغمرني عرق غزير، فأمسكت رأسي، ووضعته تحت إبطي، وسرت بهدوء، وتأكدت أني أسير في إطار الدبيب العام، وأدركت فجأة أني الوحيد الذي يحمل رأسه، فازداد خجلي، فوضعته بين كتفيً، فسقط وتدحرج، وحين جريت وراءه اختفى، وما زلت حتى الآن أبحث عنه.

الرسالة الثانية (ط)
الخروج

حين عثرت على رأسي وجدته خريطة مصر، ملامحه مدائن عشها، وخبرت دروبها، وتجاعيده شوارع عشقتها، ولم أتمكن من إعادته مكانه، فحملته تحت إبطي خوفاً من ضياعه، وهربت من الدبيب العام باحثاً عن معنى، متمنياً العثور على ذاتي، وإنسانيتي الضائعة، فلفظني الناس، ولم يدركوا أني ما خرجت إلا لهم، ولم يرض بي سوى صاحب سيرك غليظ القلب، تكشف له شكلي عما يمكن أن يربحه منّي، فعرض أن أسير برأسي المقطوع فوق السلك المشدود، وحين أخبرته أنّي لا أعرف قال: "ستتعلم." وحين قلت له أنّي لا أصلح لدور المهرج الذي يريد، مطّ شفتيه وقال: "ابحث عن آخر يرضى بك." ولأني أعرف جيداً أن لا أحد يرضى بي، قبلت، وصرت المهرج الحزين (كما أُطلق عليّ) أسير كل ليلة على السلك خائفاً في رحلة هزؤ ليلية دون أن أصل أو أسقط.
وبدأت أعي معنى آخراً للأسى، ليس شجياً ولا سامياً؛ بل مهانة وضعف، وتحول ماضي حياتي لسياط جلادة، تلومني أن حاولت أن أكون أكثر مما قدر لي، واستذلني الضعف، وأحسست أن أمي خدعتني، وأني (هـامـلـت) جـديـد حزين؛ أكـثـر ضـعـفاً، عـاجـز عـن قـتل الداعر؛ وأن أتعدد وأصبح فاعلاً، ووقعت في هوة أبشع من تناقض أكون أو لا أكون، فسقطت في بئر الصمت، أردد "حين فقدنا الرضا... فقدنا هدأة الجنب" أندم لرفض النوم مخدراً، وأعاني آلام الإفاقة، وأضيع؛ فهل أجدني أكثر صدقاً؟ هل تلصق رأسي بي؟
وأخذت الأصوات تدك داخلي، ونساني صاحب السيرك، وكان لابد أن أفقد شيئاً آخر حتى أكون واحداً من أسرة السيرك فكل منهم فقد شيئاً... هكذا قيل لي، فقد كنت رغم قطع رأسي أبدو كاملاً، وقال لي أحدهم يوماً أنه حين دخل باب السيرك، ترك كرامته عند البوابة، وأني لم أترك شيئاً، فقلت له أني فقدتُ كرامتي من قبلُ في حادث قطع رأسي، فسخر منّي وقال إنه لم يسأل عما فـقـدتـه مـن قـبـل، ولكن عما يجب أن أفقده، فقلت له ألسنا متساويين؟ فضحك، واقترح أن أفقد (وعيي) وحين قلت له أني لا أملك غيره ومن الظلم أن أفقده، ضحك عالياً وسألني عن معنى الظلم؟ فتحيرت، فربت على كتفي وقال لي أنّي غبي، وأني لو فقدت وعيي منذ البداية لكنت فقدته وحده، ولم أفقد كل الأشياء الأخرى ومضى؛ فمن لي بالرد المفحم؟ من لي بقول الحق؟ أين أنا من جبل يعصمني؟

الرسالة الثالثة (ن)
البركان

سذاجة وجنون ذكر امرأة أحببتها بين هذه البلادة والموت لكن لا يستطيع القلب إلا أن ينبض حي بدت للوهلة الأولى كالغانيات بزيها الأسود المشقوق من الركبتين للكعب، ووجهها الأبيض وشعرها الفاحم يلقي بظلاله الوحشية حول الملامح المنمنمة (حين حدثتها عن انفعالاتي الأولى ضحكت في أسى، ودفعتني في صدري) فاندفعت نحوها، وأحسست أنها من أبحث عنه، ولم أندم؛ فقد منحتني أكثر مما حلمت، ولم يصل إليه خيالي المراهق فقد أعطتني حياة.
كانت الفوضى الوحشية التي تحيط بها تحيط بي فتدور كدوامة رهيبة، ووجهها الطفولي ونظرة الأسى من عينين شديدتي الصفاء أكوان لا أعرف مداها، فأتأرجح كإيقاع ضوء فوق ماء، وألصقت رأسي، وعلمتني كيف نضحك كطفلين، واختفى ضوء الهالة الوحشية، وغرقت في العينين الصافيتين، وبـحّـة الصوت الأسيان والقلق الممزق، وحكت لي كيف اختطفوا طفليها (تكشف لي للمرة الأولى أن من لنا محسوبون علينا ويشكلون رصيداً من المحبة والكراهية) وازداد حبي لها، وغرقي في عينييها حين رأيت صورة طفليها؛ ملاكين صغيرين؛ وتأكدت طفولتها حين رأيتها في الطفلين وهما في وجهها.
حدثتني عن البركان وعن وطني وطفليها، وحين حدثتها عني، طلبت منّي أن نذهب للبركان، والتصق بي رأسي أكثر حين ذهبنا ووجدت رفاقاً، يعملون لثورة البركان، ليحرق القديم، وليقيموا عالماً جديداً غير عالم المُدى والمخلوقات الآلية، ورحبوا بي، ووجدت بيتاً، وصنعت أسرة، وأخذنا ننشط البركان؛ حيث يوماً لابد يثور؛ فنحن من يصنع البركان، فانتظروا رسالتي القادمة مكتوبة بالنار، فلم يعد حبر لكتابة ولا ورق، ولم يبقَ سوي أيدينا، ندقُّ بها لنصنع فورة البركان يوماً لابد سيجيئ، لينفجر بركاننا بأيدينا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى