أدب ساخر جورج سلوم - شلت يمينك.. حينما

عندما تفتّحت براعم الوعي في طفولتي الأولى.. وتفتّقت طلائع بذور المعرفة في نشأتي .. عرفت بأن هناك يمينٌ وهناك يسار..

وحاولوا تكريس ذلك بأن أقذِف الكرة بقدمي اليمنى .. وأمسِك لعبتي بيُمناي .. وصولاً إلى كتابتي الأولى .. وناولوني القلم المبريّ جيداً وحرصوا أن أخطّ حرفي الأول باليمين .. ومن اليمين إلى اليسار .. وأقلب الصفحة العربية باليمين .

وكان (اليساريّون) من طلاب صفّنا المدرسيّ معروفين وقلائل.. وكأنهم حزبٌ سريٌّ مفصولٌ عنا منذ الطفولة .. ونعتبرهم ضعفاء مع أنهم كانوا يتقنون الكتابة باليسرى واليمنى تكتب قليلاً .. أما نحن الأغلبية - الميمونون كما كنا نظنّ - فلم تكُ يسرانا إلا للإستناد والإتكاء عليها فقط.

- شُلّت يمينك

سمعتها لأول مرّة عندما قالتها طالبة لي في الإعدادية المبكرة عندما ضربتُها بيُمناي .. ولم أكن لأميّز وقتها بين أنثى مستضعفة وضربُها حرام ، وذكر مستقوٍ وضربُه حلال

- شُلّت يمينك

قالتها زوجتي عندما صفعتُها لأول مرة .. وكانت الأخيرة .. وضرب الزوجة كما عرفتُ لاحقاً ليس محرّماً .. هكذا فتاها لي شيخي وبرّر فعلتي وخفّف من وطأة تأثري .. وطبطب على يديَ اليمنى وصافحَها وصادق على رجولتها المزيّفة.

ولن أقصّ عليكم حكاياتِ يدي اليمنى وما اقترفت من ذنوب خلال سنيّ حياتي .. وما ارتكبت من آثام .. وما كتبَت من خزعبلات .. وما فتحت من أقفال .. وما قطعت من لحوم مطبوخة ولحوم حيّة مدمّاة!

- شُلّت يمينك

وقيلت لمن طعن .. ومقبض السيف مصنوعٌ (للميامين )

وقيلت لمن أطلق النار .. والبنادق صنعت للميامين

وقيلت لمن صفعك على خدك الأيسر براحة يمناه .. وانتظرك لكي تدير له الأيمن فيلحقك عليه بقفا يمينه أيضاً .. ليعيدك إلى جادة الاعتدال

- شلت يمينك

ولن يقولها من يردّ لك الصاع صاعين .. ولن يلفظها إلا مستضعَف لا يملك إلا لسانه ، فيدعو به ربّه أن يبلوك بشلل يُمناك

- شلت يمينك

ولذا يأخذون بصمة اليد اليسرى إذ أنها غير متخفية بالاحتكاك وغير مستعمَلة .. أما اليمنى فهي التي تصافح وتلقي السلام .. وتجهِز على عنق المخنوق بضغط أصابعها ولا تكون اليسرى على عنق الضحية إلا مشاركة ومساندة فقط في تطويق العنق الآيل للخنق.

عندما صوّروا شرايين عنقي بالأمواج فوق الصوتية قالوا:

- هناك تضيّق بالشريان السباتيّ الأيسر ، والدم يصل إلى نصف كرتك المخيّ الأيسر محدوداً

ويلي .. وقد تشَلّ يُمناي .. ولماذا يكون الفاعل فيها دائماً مبنياً للمجهول؟ .. ومن الذي سيشَلّ نصفيَ الأيمن؟

والفاعل هو الله .. وهوالذي سيشلّ يمناي

انتبهي يا يدي اليمنى وودّعي كل موبقاتك .. وأنت يا قلمي ماذا سأفعل بك لو شلت يمناي؟

هه هه .. وسأكتب ترّهاتي باليسرى على حاسوبٍ لا يفرّق بين الإثنتين.

والعالم (هوكينغ ) استمر بالكتابة على لوحة ذكية بحركات عينيه .. و(طه حسين ) كتب بيمين من استمع لكلماته

والقرصان والسارق عاقبوهما بقطع اليمين

والحلفان والقسم كان على الكتاب بوضع اليمين

وقالوا رمى على زوجته اليمين

وقالوا ما ملكت أيمانكم

وفعلاً شُلّت يميني بجلطةٍ أصابت دماغيَ الأيسر .. وتدلت من على كتفي كخرقة بالية ..وما عدت لوّحت بها لأحد .. وما عدت قادراً على وضعها في جيبي الأيمن إلا محمولة بيُسراي..

وبدأت أصابعها بالإنكماش والذبول وقد انقطعت عنها التغذية العصبية .. فأشار الأطباء بتعليقها في رقبتي بوشاح .. وامتدّ الانكماش إلى مرفقي .. ووقفت أمام المرآة عارياً ووجدتُها غريبة عني ملفوظة منّي..

وفي فراش الزوجية كنت أنام على جنبيَ الأيسر وعلى يمين زوجتي .. فأتناولها قطعة قطعة بيمناي .. وبعد أن شلت أضجعتني يسارها وتبادلنا أماكننا على السرير .. وقالت لي بأنّ يدي اليسرى أكثر حناناً وإحساساً!

اقطعوها وأريحوني من ثقلها

وبعد أن قطعوها كنت مُجبَراً أن أصبح يسراوياً .. وصرت أميل لأن أكون يسارياً .. ولم أتيسّر وما تيسّر لي..

وحلمت أن أصبح ميسوراً فلم يتحقق حلمي

لأنني بالأساس ما كنت ميموناً !

*****************
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى