مقتطف إبراهيم منصور - دفاتر القرية.. البئر/ 2

في طفولتي المبكرة كان خالي السيد يداعبني فيناديني "المنسي" فلما تكرر منه هذا الأمر وأصبحت أتقبله راغما لا راضيا، سألت عن سبب وصفه لي بالمنسي، قالوا: لأننا نسيناك في الشارع حينما حللنا بالقرية فمشيت نحو خرارة عيسى وكدت تقع فيها.
كان ذلك في العام 1962 ولم أكن أكملت عامين.
في هذا العام انتقلت أسرة "أم محمد محمد شعبان" بأبنائها من الذكور والإناث وأزواجهم وأولادهم من قرية كفر سعد البلد إلى قرية جديدة. فاشترت البيوت والأراضي والمواشي وصنعت لهذه القبيلة حياة جديدة.
كانت السعيدية القبلية قد أنشئت عام 1946م بقرار ملكي سأعرف به مصادفة وأنا أطالع بعض أعداد جريدة الأهرام في مكتبة البلدية في طنطا نحو عام 1980.

قادت أم محمد أسرتها المكونة من الذكور رزق وإبراهيم والسيد ومن الإناث خضرة التي سميت على اسم جدتها لأمها، وهانم. أما الأب إبراهيم الغالي فقد توفي مبكرا. وترك الأبناء الخمسة مع أمهم العفية، لكنها كليلة البصر نوعا.
كانت القرية مكونة من أربعة صفوف من البيوت صفان عن اليمين وصفان عن الشمال وبينهما شارع واسع، يتصل مباشرة بوسط القرية حيث منطقة الخدمات، وكل صف به عشرة بيوت خمسة في ظهر خمسة ثم بعد شارع بالعرض تأتي الصفوف الأربعة التالية، ثم منطقة الوسط، وهي متسع فاصل بين القسم الشمالي والقسم الجنوبي من القرية وفي هذا المتسع تقع المرافق وهي المسجد وبناء من عدة حجرات يسمى الحمامات، وبناء خدمي آخر به دكان بقالة والجمعية الزراعية. وبعد هذه المساحة الفاصلة يأتي الجزء الثالث من القرية على نسق الجزئين الأولين وأخيرا مساحة خمسة أفدنة في نهاية القرية فارغة من كل عمران لكن السبخ المالح يعلو سطحها فلا يقترب منها أحد.

وتقع القرية على ترعة تسمى ترعة الملجأ، سأعرف فيما بعد أن مؤسسة للأطفال اليتامى قد أنشأتها وزارة الشؤون الاجتماعية في أول الترعة حيث تأخذ ماءها من الترعة الكبيرة ترعة البلامون، ومن اسم الملجأ أخذت الترعة اسمها.

كانت الصفوف الأولى من القرية متأخرة عن الطريق الرئيسية و شاطيء الترعة بمسافة لا تقل عن أربعين مترا وفيها يقع الصهاريج، وهو بناء من الخرسانة المسلحة مقسم إلى عدة أقسام لم أع من استخدامه في تحلية مياه الترعة وضخها إلى منطقة الحمامات شيئا، فقد حللنا القرية وبها حنفيتان عموميتان للمياة. لكني وعيت بدقة مراحل استخدام هذا الصهريج مربطا للمواشي، ثم مركزا للاجتماع واللعب والسمر، وأخيرا تحوله إلى مركز للشباب.

جعل المخطط في نهاية الطريق الواقع إلى اليسار مساحة اثنين ونصف فدان خصصت مقبرة للقرية على بعد سبعمائة متر إلى الجنوب الشرقي من المساكن حيث يوجد المصرف الرئيسي ونسميه "الخارج الكبير".

كانت مساحة القرية عشرين فدانا، خصص منها للبيوت اثنا عشر فدانا ونصف، وغير المتخللات تركت أرض فضاء هي الخمسة أفدنة، في الجنوب، ونسميها "السبخاية" وفدانان ونصف للمقبرة.

عدد البيوت 5×2 في كل صف وعدد الصفوف 12 فيبلغ العدد الكلي 120 منزلا.

صممت البيوت على نمطين كبير وصغير، نينتي ومعها ابنها الأصغر السيد، وكذلك خالي رزق كانوا يسكنون في بيتين من البيوت الكبيرة في القسم الغربي، أحدهما في ظهر الآخر، وفي الشطر الأيمن أما نحن فسكنا أولا في الشارع نفسه على الناصية في الصف المقابل ثم انتقلنا إلى شارع سوف يأخذ اسم شارع "السعادوة" فيما بعد في القسم الأيسر وبيتنا فيه من البيوت الصغيرة؛ لأن هذا القسم كله بيوته صغيرة.

خالي إبراهيم المغامر دائما تخلف في كفر سعد البلد أو جاء معهم ثم عاد لكنه سوف يسكن على ناصية شارع السعادوة فيما بعد.

حينما انتقلت الأم "أم محمد محمد شعبان" بقبيلتها إلى السعيدية القبلية كانت القرية مأهولة فقد سبق إلى القرية فلاحون من زفتى التابعة للغربية، ومن دنديط التابعة للدقهلية، ومن دنجواي التابعة لمركز شربين دقهلية أيضا، ومن كفر سعد البلد نفسها.

أما أهل زفتى فأقاموا في الشطر الخلفي أبعد ما يكون عن الطريق والترعة، وأقرب ما يكون إلى السبخاية، وأما أبناء دنجواي ونسميها "دنجيه" فقد أقاموا في عزبة على بعد أربعمائة متر إلى الشمال الغربي، وأقام أهل دنديط في عزبة "عرفي" على بعد مائتي متر في الشمال الشرقي، وكل من عزبتي الدنجوى وعرفي تتبع جمعية زراعية أخرى اسمها المعاشات الكبيرة. وأخيرا فلاحو كفر سعد البلد الذين شاركوا مع جمال عبد الناصر في حرب فلسطين، وحوصر بعضهم معه في "الفالوجة" وقد تميزوا بأن حصل كل فلاح منهم على خمسة أفدنة من الأرض الممتازة المطلة على ترعة النيل.

قام المخطط لمنطقة تفتيش ري كفر سعد بعمل الترع والمصارف على هيئة خطوط متوازية فالترعة تبدأ عند مأخذ المياة من ترعة البلامون وطريق دمياط المنصورة وخط سكة الحديد، وبعد ألف متر بالتمام يبدأ المصرف، فيسير موازيا للترعة ثم بعد ألف متر من المصرف تشق ترعة أخرى، وبذلك تكون المسافة بين الترعتين بعرض 2 كيلو متر ثم تسير الترعة موازية للمصرف وينتهيان عند المصرف الرئيسي وهو مصرف كفر البطيخ الذي يصب في البحر المتوسط عند جمصة، الترعة مغلقة من نهايتها، مفتوحة من بدايتها ولها بوابة حديدية ضخمة تقوم على فتحها وغلقها مصلحة الري، أما المصرف فعلى العكس مغلق في بدايته مفتوح في نهايته حيث يصب ماء الصرف الزراعي في المصرف الكبير.

حينما انتهى التخطيط، وشقت الترع والمصارف، جاء الملك فاروق، وافتتح المشروع، وسلم بعض الفلاحين من ميت غمر وزفتى وأجا وغيرها من قرى الدقهلية والغربية والمنوفية عقود تمليك خمسة أفدنة، هؤلاء الفلاحين كانوا من المعدمين، تسلموا نصيبا من الأرض، لكن المنطقة كلها صارت تعرف ب"المعدمين" مع أن أغلبية الأرض ذهبت إلى أفندية من أهل المدن وهم خريجو مدرسة الزراعة تسلم كل واحد منهم عشرين فدانا. أما خريجو مدرسة الزراعة العليا فقد تسلموا مساحات أكبر بلغت خمسين فدانا.

كانت المنطقة الموازية للسعيدية القبلية، في الجنوب والسعيدية البحرية بعدها، تبلغ ثلاثة آلاف فدان وأطلق عليها "جمعية المعاشات الكبيرة" ومن الذين تسلموا أرضا في هذه المنطقة رجل كان مصابا في قدمه ويحمل عصا على هيئة مقعد هو حسين ثروت، وهو ليس من أهل دمياط، وأخوه كان وزيرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى