عبد السلام بنعبد العالي - الكتابة والترجمة..

هل تتقدم الكتابة عملية الترجمة أم تواقتها؟ لا أقصد هنا فحسب نص الترجمة، وإنما عملية الترجمة ذاتها. ومع ذلك فقد يبدو هذا السؤال غريبًا، أو على الأقل، مفترِضًا الجواب عنه، فالظاهر أن النصّ المكتوب يتقدم ترجمته شتى أنواع التقدم، التقدّم بالزمان أولاً، فالترجمات تظهر كما يبدو عقب الكتابة، لكن من المنظرين من يرى أن التقدم هنا هو أيضا تقدم بالشرف مؤكدا أن النسخة لا يمكن أن ترقى إلى مرتبة أصلها. ومع ذلك، فالأمر يبدو في نظرنا محتاجًا إلى مزيد من التمحيص.

سعيا وراء هذا التمحيص سأنطلق من فرضية أتمنى أن تجد تبريرها في نهاية هذا المقال ترى أن التعددية اللغوية ليست أمرًا عرضيًا ولا بالأمر السطحي، ولا هي تخصّ فئة اجتماعية دون أخرى، وإنما هي سمة الكتابة بما هي كذلك. فلا محيد للكاتب من أن «يغرق» في لغات متعددة، علما بأن اللغة بابلية في جوهرها.

إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هنا، هو أن التعددية لا تعني كون الكاتب يجد نفسه أمام كثرة من اللغات، وإنما أن اللغات تتشابك عنده في عمليات ترجمة. وعندما تدخل اللغات في عمليات ترجمة فإن تعددها ينتعش، ولا تعود اللغة تقتصر على الاختلاف مع غيرها من اللغات، وإنما تسعى لأن تخالف ذاتها. هذه الازدواجية تجعل الكاتب في وضعية ترجمة لا تتوقف. ذلك لأن هناك عملية ترجمة دائمة بين اللغتين، وحوارًا خفيًا لا يمكننا فهمه ولا تبيّنه. «وهذا يعني، كما يقول ع.الخطيبي، أن الازدواجية اللغوية، أن تعدد اللغات، ليسا مجرد علائق خارجية بين لغة وأخرى- بين اللغة المصدر والهدف على حد قول اللسانيين- ، وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب ترتسم دوما كلمات أخرى، كتابتها الضيْفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة لغات أخرى»[1]

فليس إنسان التعددية ذاك الذي يتكلم عدة لغات، وإنما ذلك الكائن السندبادي الذي «يوجد» بين لغات، وبين ثقافات. إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا التعدّد ليس تساكناً بين عدة أشكال للأحادية اللغوية (plusieurs monolinguismes). كتب ج. دولوز: « إن علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغة بذاتها: علينا أن نحوز لغة أقلية داخل لغتنا نفسها بالذات، علينا أن نستخدم لغتنا نفسها استخدامًا أقليًا. ليست التعددية اللغوية حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانسًا في ذاته فحسب، بل هي، أولاً، خط الهروب أو التنويع الذي يمسّ كل نظام مانعًا إياه من التجانس. لا أن نتكلم كإيرلندي أو روماني بلغة أخرى سوى لغتنا، بل بالعكس، أن نتكلم لغتنا نفسها كأجنبي.» في هذا السياق يورد دولوز قولة بروست (Proust): « إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كتبت بلغة أجنبية. »

نعلم أن جاك دريدا يدخل تحويرًا على عبارة بروست هذه فيقول: «إننا لا نكتب قط لا بلغتنا، ولا بلغة أجنبية»[2]. الكتابة إذن استبدال للغة. فكما لو أنها تتمّ بلغة ثالثة. وهكذا نكون غرباء حتى عندما نكتب بلغتنا. الكتابة قران بين لغات، وحركة تنقّل لا تكلّ. والأهم أن هذا التنقل وهذا الخروج يتمّان حتى داخل اللغة الواحدة. وربما من أجل ذلك فإن كثيرًا من الكتّاب لا يرون في الابتعاد عن اللغة الأم ابتعادًا عن الذات بالضرورة. فالكتابة عندهم تجاوزٌ للذات، حتى إن اقتضى الأمر أخذ مسافة مع اللغة الأم. فباستطاعة الكاتب أن يختار اللغة البعيدة، اللغة الأجنبية، كي يقترب من ذاته. الكاتب إذن «ابن اللغة». ليس ابن ما ندعوه اللغة –الأم فحسب، وإنما هو ابن اللغة التي يكتب بها.

يتساءل عبد الفتاح كيليطو في أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية: هل يأخذ الذين يكتبون بغير اللغة العربية مسافة فعلية مع هذه اللغة؟ فيجيب: «المفارقة أن بعض من يكتبون باللغة الأجنبية، يكونون تحت تأثير اللغة العربية أكثر من أولئك الذين يستعملون العربية». قد يقال، لا معنى لما نقوله هنا عن الابتعاد والاقتراب إلا إذا افترضنا أن اختيار اللغة التي نكتب بها شيء متاح، فهل يختار المرء اللغة التي يكتب بها؟ «ذلك أن اختياره ما أن يقع على لغة حتى يتبين أخرى مضمرة في ثناياها. فلو أنه كتب باللغة العربية سرعان ما يجد نفسه مستعملاً لغة أجنبية. بهذا المعنى، فحتى الذين يكتبون باللغة العربية، هم مزدوجو اللسان، ليس فحسب لأنهم يتمكنون من اللغة الأجنبية إن قليلاً أو كثيرًا، ولأن بعض تعابير هاته اللغة ولويناتها تتسرّب إلى نصوصهم، وإنما خصوصًا لأن نماذجهم الأدبية هي نماذج أجنبية في جزء منها».

في هذا السياق، يذهب كيليطو في حديثه عن أحد الكتاب المغاربة الذين لا يكتبون إلا بالفرنسية، وهو أحمد الصفريوي، إلى أن الازدواجية سرعان ما تتسرب إلى كتابات هذا الكاتب الذي ينعت بالفرنكفوني. يتساءل كيليطو: «هل يكتب الكاتب المغربي بلغة واحدة؟ فيجيب لا أعتقد، حتى ولو كان النص يقدم نفسه كليا بالفرنسية أو بالعربية»[3] . بل إن كيليطو يذهب في تحليله لصندوق العجب للكاتب نفسه حتى القول: «إن الصفريوي يكتب بلسانين، ومن غير الصواب القول إنه من كتاب اللغة الفرنسية. كما من غير الصواب الجزم، دون تحفظ، بأن الصفريوي يتوجه نحو قارئ فرنسي أو ناطق بالفرنسية[4] ».

في هذا الإطار كتب عبد الكبير الخطيبي: «إن كل لغة هي بمعنى ما، لغة أجنبية عن نفسها، عن إطارها القومي. لأن الأدب ينغرس في شجرة أنساب نصية، وهي نفسها شجرة أسطورية». لا يمكن للكاتب أن يكون سوى غريب محترف، سوى كائن سندبادي. كما كتب: «فسواء أكانت الازدواجية اللغوية تعاش بطريقة مخصبة وفعالة، أم كانت مصدر اضطراب وخلط، فإنها تمكن الكاتب من كشف آخر. إذ إنه سرعان ما يتبين أن هذه اللغة الأجنبية ليست لغة الأم ولا لغة الأب، وأنها، بوصفها تجربة كتابة، لغة الهو المجهول، لغة لا تستمد أصلها من شخص بعينه. فهل هي لغة لاشخصية؟ نعم، وبمعنى مزدوج: فمن جهة، إن اللغة ليست ملكا لأحد، ومن ناحية أخرى، فإنها تفقد قناعها كملك جماعة أو بلد مهيمن للثروات الرمزية التي تتبادلها. إن هذا الطابع اللاشخصي هو يوتوبيا الكاتب، ومنفاه.»

ينبهنا الخطيبي أن مفهوم ما لايقبل الترجمة لا يحيل فحسب على ما يحول دون الانتقال من لغة لأخرى، وإنما هو «قوة باطنية تعمل داخل كل كتابة، أي أنه ازدواجية فعلية لا تعني هنا فحسب ما يشكل عائقًا لنقل لغة إلى أخرى، إلى لغات أخرى، وإنما هي تعني القوة الباطنية التي تسكن كل كتابة، أي تلك الازدواجية الفعلية (بين الصوت والمكتوب)، أقصد تلك الازدواجية اللغوية الهيكلية التي ينطوي عليها كل لسان، وأعني تلك الحركة اللامتناهية بين الكلام والكتابة »[5].

ذلك أن «اللغة الأم» «تعمل عملها في اللغة الأجنبية. تتم بين اللغتين عملية ترجمة دائمة، ويدور بينهما حوار خفي يتعذر كشفه وتبيانه.»[6]بهذا المعنى «فلا يتعلق الأمر باستبدال اللغة الأم، وإنما استبدال لغة كتابة بازدواجية لا تصدَّق، ما دام الأمر كان فيما يخص تجربتي أنا، يتعلق بالتحدث بلغة والكتابة بأخرى. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفرق بين اللغات السامية واللغات اللاتينية، فإنه صراع دون هوادة [7] «.

يظهر إذن أن الازدواجية اللغوية خلاّقة، وأنها تدفع الكاتب إلى أن يبتدع لغته الخاصة. كأن الكتابة، في نهاية الأمر، هي تجربة التخلص مما نملك والانسلاخ مما يخص: «عندما أكتب فإن ذلك يتم في لغة الآخر. هذه اللغة ليست ملكًا من الممتلكات»[8].

في كتابها في امتداح الترجمة تلخّص الفيلسوفة الفرنسية بربارا كاسان رأي هومبولت حول هذه المسألة فتقول: «في الواقع لا يتكلم المرء لغته جيدًا إلا بمقارنتها بلغة أخرى، فنحن لا ندرك نظام اشتغال اللغة إلا عندما نقارنها بنمط اشتغال لغة أخرى». ثم تعقّب: «وهذا ما أعنيه بالترجمة». لا تشتغل اللغة إلا مقارنة بأخرى وفي اقتران معها. لذا نلاحظ أن من الكتاب من تبدأ عندهم الكتابة بلغة لتنتهي بأخرى. فهي لا تُنجز، لا أقول إلا بعد أن تترجَم، وإنما تُنجز في/ بــ حركة ترجمة. تُنجز في خضم ترجمة. ربما كان هذا هو واقع الكتابة، فهي ليست ممكنة إلا في خضم ترجمات.

لن تعود الترجمة والحالة هذه، عمليةً تعقُب الكتابة وتأتي بعد أن يُنجز النص لتنقله إلى لغة أخرى، وإنما هي تتخلل الكتابة، وتعيش مخاضها. حينئذ لن يعود لسؤال السبق الذي طرحناه في البداية أيّ دلالة، ولن تتقدم الكتابة عملية الترجمة ولن تتلوها، بل هي تعمل في خضمها.





[1] Khatibi, Nationalisme et internationalisme littéraires in Figures de l’étranger dans la littérature française,

Denoël, Paris, 1987, pp. 201-214.

[2]J.Derrida, Parages, Galilée, 2003, p47.

« On n’écrit jamais ni dans sa propre langue ni dans une langue étrangère.»

[3]. A. Kilito, « Sefrioui et la langue du lecteur », Magazine Littéraire du Maroc (MLM), n°5, Automne 2010, p. 69.

[4]. Ibid., p. 69.

[5] Ibid

[6] A.Khatibi, « Bilinguisme et Littérature », Maghreb pluriel, Denoel, 1983, p179.

[7] نفسه.

[8] A.Khatibi, Le scribe et son ombre, Paris, Éditions de la Différence, 2008, p119. « Quand j’écris, je le fais dans la langue de l’autre. Cette langue n’est pas une propriété



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى