جودت جالي - الضبع.. قصة قصيرة

كل ما يستطيع قوله هو أن نظرته اليه كانت نظرة استخفاف.. استخفاف حيواني خالص، استخفاف يمتد نحوه عبر الأمتار القليلة مع برد الفجر من وقفته، المتفرسة، الجانبية، الكالحة، الصنمية. فهمه... تفاهما، وكل في عالمه المتوحد، بتلك النظرة المخيفة التي كان يوجهها اليه، بسماجة الغريزة وثبات الوحشية. كان ضبعا فعلا.. حيوان بحجم الجحش الداكن، بحجم كابوس مفترس أفلت من نومه المؤرق الى يقظته حين فزّ منتبها، مجفلا على نباح الجروين المذعور، وعلى اندفاع أحدهما هاربا من الضبع ليدخل تحت سريره المكون من باب عربة قطار صدئ وضعه فوق أربعة جلاميد صخر وجعل تحته ليلتئذ بنادق رفاقه الكلاشنكوف الثلاث فيما أبقى بندقيته لصقه في الفراش . تبين له فيما بعد أن الجرو الأخرق اللعين قد تغوط من شدة خوفه على البنادق. بقي الجرو الثاني، الأكبر، في منتصف المسافة بينهما ينبح على الضبع بإصرار الجرو الغر. أنبأ تردّدُه الضبعَ بما يكفي ليعرف أن لحظة الضغط على الزناد لن تحل.. مادام هو، الضبع، على بعده، في مكانه أو أبعد. عندما فز، ودون تفكير، حتى قبل أن يفتح عينيه، سحب أقسام البندقية وسددها فاتحا عينيه في اللحظة ذاتها باتجاه صوت النباح المستغيث. لام نفسه على غلطة كان يمكن أن تتسبب في هلاكه بين فكي الضبع. كان يعرف أن أخطر الأوقات هو الفجر في كل مكان عاش فيه.. وقت الزوار غير المرغوب فيهم، وهنا .. الحيوان الضاري واللص، كلاهما، يختار هذا الوقت للتسلل، عندما يبدأ الهواء اللطيف البارد يداعب العيون بعد سهر الليل الصيفي القائض. فتح عينيه على سعتهما كأنه ينخلع الى الصحو انخلاعا مؤلما بعد غفوة لذيذة. هناك رآه.. واقفا وقفته المهيبة يخبره بأنه اليقظة التي لا يعرف كم هي أقرب الى موته وأنه، الضبع، هو المتحكم فيها، يخبره أن أربع بنادق لا تغير من أمره شيئا إن لم يكن يحسن استخدام الواحدة التي بين يديه. مرت لحظات التحدي بطيئة، وعتمة الليل المتأخرة تزيد بغلالتها من توتره وهواجسه. نظر بطرف عينه، دون أن يدير رأسه، يمينا ويسارا، ليتأكد من أنه يواجه ضبعا واحدا. استنفر حواسه كلها ليستشف أيضا أن المرتفع الذي خلفه والذي يرتقي الى جسر سكة القطار الذي تقع نقطة حراسته تحته لا يمكن أن ينهد عليه بضبع ثان. الحقيقة أنه لم يتوقع أن يواجه ضبعا. كان يتوقع لصا من أهل القرية القريبة ربما يكون قد لاحظ أنه وحده فيباغته في هذه الساعة طمعا في البنادق التي دسها هو تحت سريره الصلب زيادة في التحوط والأمان. راقبه.. واقفا هناك.. بين خزان الماء وعربة القطار العتيقة التي كانت غرفة للحرس قبل بناء غرفة من الحجر. استفزه استخفافه البارد، وتكشيرته الصامتة، وعيونه ذات النظرة المتعالية من رأس مرفوع قليلا داخل هالة داكنة من شعر رقبته المنفوش. كانت بيوت القرويين في الجهة الأخرى من الوادي، تمتد من الطرف الآخر للجسر مع المنحدر الى الشارع المحاذي لنهر الفرات، ولو أطلق عليه النار قد تذهب رصاصة لتستقر في جسد انسان ينام على سطح من السطوح غير المسيجة فتحدث الكارثة، وربما، انطلق نحوه الرصاص من عشرات الفوهات. حذر معقول، أو هكذا أقنع نفسه. في هذه الإثناء كان الضبع ينتظر... خطر في باله أيضا أنه إذا أفلح في قتل الضبع قبل أن ينقض عليه ويمزقه فإن لعلعة الرصاص نفسها ستكون بداية كابوس آخر، حين تدخل نقاط حراسة الجسور كلها حالة الإنذار على خط السكة المار بقرية البغدادي. سيكون عليه أن يفسر لآمر القاطع لماذا هو وحده وأين ذهب الحراس الذين معه. لن يفهم الآمر ولن يستطيع هو أن يقول له أن الحراس الذين معه لم يكونوا يحرسون بقدر ما كانوا يعبثون... وباستخفاف الضباع. لم يكونوا أكثر من طقطقات مسابح، وأكثر ما كانوا يفعلونه هو التمدد على فراش في الظل أو التمشي عصرا على هذه الأرض الكركمية ذات العرابيد والعقارب نحو المضيق الذي يوصل الى أوجار الضباع وأبناء آوى البعيدة. كان مسرورا لصرفهم الواحد بعد الآخر الى بيوتهم، وهما شرطيان سابقان في سجن أبي غريب وفتى لم يبلغ عمر التجنيد، على أن يعودوا في اليوم التالي.. في يوم الضبع هذا. رأى في إبعادهم خلاصا لمدة يوم يبعدهم فيه عنه، وخلاصا ليوم آخر يبتعد فيه هو عنهم لينصرف الى أهله في بغداد. قضى يوم انصرافهم في تذوق (أشهر قصائد الغزل في الشعر العربي) دون أن يفسد عليه متعته طقطقات المسابح و الضحكات الغبية، وقضاه في تأمل ما بدا له جمالا نادرا في تلك الأنحاء، الشريط القصير الرائع الذي يبدو من بين جانبي منحدر الوادي عند نهر الفرات حيث الطريق المعبد والمقاهي المنتشرة بين أشجار الشاطئ، جمال سياحي مستعار من لبنان كأنه بطاقة معايدة، راقب فتيات القرية يحتطبن هنا وهناك، وقد يقتربن منه فيمعن في تأمل جمالهن أشهب الشقرة وعيونهن صافية الزرقة أو الخضرة، ويعجب للتنافر بين بياض بشرتهن وسمرة بشرة الرجال وبين رقة ملامحهن والخشونة في ملامح رجال هذه القرية.

لكن الضبع ينتظر الآن.. وسرعان ما سيدرك أن لحظة ضغطه على الزناد لن تأتي فيشرع هو بلحظته، ولكم تمنى أن يندفع الضبع نحوه فيقطع دورة التردد ويضغط على الزناد. انتبه الى أن الكلاب عند البيوت قد ثارت أيضا نابحة نباحا متصلا وقد شمت، دون شك، رائحة ضبع قريب في الأنحاء وسمعت عويل الجروين ولكنها لا تجرؤ مع العتمة أن تترك جوار البيوت، وكذلك انتبه الضبع، وخيّر نفسه، وهو مطمئن، كما يبدو، الى أن الرجل لن يطلق الرصاص عليه مادام يحافظ على بعده، فتحرك لكن اتجاه حركته لم يكن متوقعا إذ انسحب متجها نحو النهر وليس نحو المغاور البعيدة. نزل الدرب الذي تسلكه سيارة الأرزاق وسيارة الخبراء الأجانب المشرفين على أعمال السكة. توقف بعد مسافة واستدار لينظر الى الرجل الذي تتبعه بفوهة بندقيته، ليلقي نحوه تذكيرا أخيرا بتعاليه واستخفافه ثم تابع طريقه وغاب في المنحدر. رآه لآخر مرة عندما وصل الى الطريق العام الموصل الى بغداد وسلك المنحنى نحو ضفة النهر في ضوء الصباح الباكر.

يتذكر الرجل بعد مرور ربع قرن ذلك الاستخفاف، ذلك التعالي الحيواني الذي كان يستمد من الفجر المعتم ، ومن عزلته، برودته الصاعقة التي كانت تستحق رصاصة تدوي وتبدد الصمت.. يتذكر أن الأصبع كان في مكانه المناسب على الزناد.

2007
من مجموعة (فك الحزن) 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى