علـي جــازو - قصَّـةُ الخـائـفِ الجـاهـلِ

كنتُ ذا ميلٍ فطريٍّ لتعنيف ذاتي وإجبارها على كَتْم ما تحبُّ، لا رغبةً في جعلها تُماثِلُ غيرَها من حيوات قاسيات فحسب، بل لمعاقبتها يوميًّا على عجزها أن تحظى بانفرادٍ يحمي آلامَها الشبيهة بأرضٍ تجمَّدَ صلبُها، فما عادت تعكس سوى كتمانٍ لا يزيده العملُ إلا فوضًى وأذى! نعم، جرَتْ فيَّ الأذيَّة، وأذعنتُ للفوضى كعبدٍ زادَه اليأسُ ضعةً وانسحاقًا أمام معبوده وتماهيًا معه. ومع تشابُه الأيام الدائرة، بَعُدَتِ الهوَّةُ بين أحاسيس حسبتُها شديدة الصفاء واللذة وأعمال قوامُها اللفظ الواضح – كآلة سريعة متقنة – تمكَّنتْ من حبسي داخل وضوح الواجب المقيت وحصافة الآراء الشائعة التي تتلقَّفها الأفواهُ دون حسبان أن الآراء تلك تُبعِدُ المرءَ عن العقل وسلامة النظر. لذلك، ربما، – ليس بوسعي إدراك سبب آخر – صرتُ عديم الإحساس بما أُبصر. ومع تراجُع صلة عيني بمشاهداتها – وهي كثيرة وغائمة – ابتنَتِ الساعاتُ جدرانًا موحشة لامرئية – وفي هذا قوَّتُها وثقلُها غير المعهودين – بداخلها تمزَّقَتْ قدرتي على التكلم، وبتُّ أحسد مَن ينقل عن نفسه ما تشاهدها في عفوية وهدوء! لم أصرخ في وجه أحد، ولم أستنجد أو أطلب مكانًا غير الذي أنا فيه أسير خوفي وقلقي، ولا استبدلتُ الأنينَ بوحدتي الكابيةَ، لكني حسبْتُ أن لصمتي ذاك – صمْتَ العاجز المحتار – قيمةً أخلاقيةً لم أعرف كُنهَها! تراني نسبتُ لعجزي ما ليس منه في شيء، أو أضمرتُ رضًى خفيًّا بإضفاء صبغة أخلاقية، هي مزيج من التبرير الخائر والدراية المشوهة، على أمور هي في عِداد الكسل والتخاذل والجبن، إنِ احتكمْتُ إلى سلَّم الأخلاق في شأنها لما خرجتُ بغير نفْسٍ أقرب إلى الدناءة منها إلى الطيبة. ثم أليستِ "الأخلاق" كلمةَ كلِّ امرئٍ ضعيف؟ ولِمَ يختبئُ البشر تحت رداءٍ كهذا إنْ لم يكونوا عديمي القلوب؟! ألَمْ أتوارَ أنا أيضًا خلف حياة كهذه؟ ألستُ، بما أدَّعي وأفعلُ، واحدًا من أولئك الجبناء الذين أحسبهم أقلَّ شأنًا مما أنا فيه؟ – وإنْ كنتُ الهادئَ الحالمَ؟ وإنْ كنتُ المتودِّدَ الحكيم؟ ألا يمكن للهدوء والرقَّة أن يحملا الذلَّ والاستكانة؟ أليس الودُّ، في وقت العنف الشامل، زيفًا مزدوجًا وتبجُّحًا بغيضًا؟ أليس الصمت، في حينٍ بعينه، شكلاً واهيًا وأليفًا من أشكال النفاق التي لا عدَّ لها؟! الهادئ يتكلَّم ويجادل ويفصح ويثني ويشمئز ويقارن ويحكم... لكن هدوئي ليس من ذاك في شيء. بل الأصح ألا أسمِّيه هدوءًا. إنني المتعثر الأول في رداءة ربط حالي بأسماء تُلصَقُ بها من خارجها، لسبب بسيط: وهو أني بتُّ أكثر الناس جهلاً وبُعدًا عنِّي! وما الضرر إذا كان ألمي غير ناشئ عن حسيَّةٍ أخلاقية؟ ألستُ بذا في حالٍ أفضل؟ مَن يَعْزُ يأسَه إلى الأخلاق إنما يعزوه إلى مطلق يضاهي الله، والله – المطلق الأوحد – هو أكثر أحاسيسنا جهلاً بما نحن عليه من شراهة وفساد! أينجو الصادقُ؟ مَن تراه لا يزال يثق بنجاةٍ يجلبها الصدقُ؟! وماذا نبتكر بعده إذا وجدنا الصدقَ مصادفة في الهواء ومصادفة في القبر؟! ألسنا بثقتنا هذه ننفي الحياة إلى مواتٍ أكيد؟ ألسنا نؤكد على صدق لن يكون سوى عمل من أعمال المحتضرين؟ أما من عالم آخر، أكيد وحاسم وقاهر، مثلما هو عالم الموتى الطيِّبين؟! وما تكون الحياة إذا رأيناها فجأةً جوعًا إلى الموت، وإذا كان جوهر أفعالنا يتهيأ له الحدوثُ بين أنفاسٍ تُلامِسُ الموتَ؟ ألا تجدر بنا الإقامةُ في المقابر على الدوام، والإصغاءُ إلى حكم النهايات السافرة، لأننا سنحظى حينذاك بكلِّ حكمة، ويمكن لِما افتقدناه أن يستردَّه بدلاً منَّا الموتى الفاضلون؟! مَن أنا حتى أحكم على الحياة بخلل الموت! ما الجيد العميق الذي عشتُه، أو جرَّبتُه، أو رأيتُه حتى، بمكيال الجودة والعمق، أخرجَ بقيمة ما؟ ألستُ أحد أولئك الثرثارين، وإنْ لم أنطقْ بالكلمات جزافًا مثلهم؟! ليس التماثل في وحدة الفعل، إنما في الحاسَّة المحتجبة والدافع المقنَّع الحافرَين خلف كلِّ عمل. هم يجاهرون بكلِّ سِمَة، أكانوا من أصحابها أم لم يكونوا، وأنا أخفي كلَّ حاسة وكل حاجة، سواء كانت لها فرصة التكون أم لم تكن. ألسنا نتشابه هكذا في شكل تفكيرنا الباطني غير المدرَك؟ ألا يشبه جزاء فعلهم اليومي القيمةَ نفسها لتواريِّ عن نفسي كلَّ حين؟! وإذا كانوا بالثرثرة يحسبون أنهم قد أبعدوا الجبن عن نفوسهم الخطرة، فإنني بالتستُّر القلق خلف قناع "الهادئ" ألتصق بجبني مثل مريضٍ يؤخِّرُ الخوفُ والأملُ ساعةَ موته. وما ذاك التأخير إلا زيادةً في نضوج الموت واكتماله. وكلانا ذائقٌ الفاكهةَ المُرَّةَ ذاتها: هم بكلِّ عمل لا يزيدهم شيئًا ولا ينزع عنهم شيئًا، وأنا بصمتي الفاعل فعْلَ الجهل المكين! لم يسحقْ خوفي رغبتي، ولا تبادلَ يأسي عفونتي، مثلما أحيا وأنزلق مع أشهر التفتُّت هذه! يا لها من أوقاتٍ تغلي وتتبخر وتذوي وتنتهي كما لو أنها لم تكنْ ولم تُرَ! آهٍ، لو عِبْرَ مرآة كبيرة رأتِ الأعينُ البريئةُ انكماشَ الدَّمِ خلف وجهي، وقد أحالتْه الخيبةُ بلا ملامحَ، بلا ظلال! ليت مصادفةً، أو جرحًا متفجرًا، ليت ما مشيئة تدفعني إلى الصراخ. وماذا إذا صرختُ حقًّا؟! أيمكن للصرخة المرجوَّة رفعُ ثقلٍ تراكَم، صار، مع قبول كلِّ تصرُّف ليس سوى حيلة من حيل الجبن، أشبَهَ بطبيعة نفسية منه شأنًا دخيلاً سرعان ما تبرأ النفسُ منه إذا هي استجمعتْ صفاءَها كلَّه في صرخةٍ تقلبُ كيانَ الخائفِ حَزْمًا وسكينة؟ ومن تراه، بعد أن فقد الثقة، يستعيد قوةً لم يعتدْ عليها؟ أليس هذا أيضًا من قبيل التفاؤل، – ربيب الغباء الخبيث، – التفاؤل القادر على خلط الحقيقة بالزيف، العجز بالشفقة، والعمل بالوهم؟ ألسنا بما نحسبه تعاطفًا ذاخرًا نحرِّضُ – بكلماتِ اللِّينِ الرخوة النافقة – اعتبارَ الضعف من سمات الألفة البشرية؟ وماذا إذا عرفنا يومًا أنه ليس سوى الكذب، وليس سوى الجهل، وليس سوى الخوف، وليس سوى القسوة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى