ميخائيل سعد - أنا والكلب.. قصة قصيرة

لم أكن في أي يوم من أيام حياتي ضد الكلاب، ولا ضد أي نوع من أنواع الحيوانات، وخاصة بعد أن استوطن حينا أسد، ولكن أن ترى الحيوانات في الشارع أو حديقة الحيوان وتكون لطيفاً معها شيء، وأن تجد هذا الحيوان في بيتك شيء آخر. فقد عدت أحد الأيام من عملي مساء، لأجد الأسرة مجتمعة حول جرو صغير لم يكن يتجاوز عمره الثلاثة أسابيع وهم يدلّلونه ويحملونه ويتسابقون لتلبية حاجاته من مأكل ومشرب ومكان آمن للنوم. أعلنت عن انزعاجي ورفضي لوجود الكلب في بيتي، ولكنني ضعفت أمام إلحاح أولادي وزوجتي ومحاولة الجرو التمسّح بقدميّ، وكأنه أدرك غريزياً أن صراخي هو ضده. بلعت غضبي ودخلت إلى غرفة النوم قبل أن أُتّهم بعدائي لحقوق الحيوان.

في الأيام التالية، قررت أن أتقرب من الكلب وأكون صديقه، فلا فائدة من معاداة الأولاد والزوجة من أجل كلب ابن كلب، وبالتالي الأفضل كسب رضاهم عبر كسب ود الكلب. لذلك بدأت بالاهتمام بتقديم وجبة الغداء له، لأن الجميع في أعمالهم أو مدارسهم، وأنا الوحيد الذي يستطيع مغادرة مقرّ عمله دون أن يُحسم راتبه. هذه الخدمة اليومية للكلب جعلتنا أصدقاء، فعندما أعود إلى البيت ظهراً، كان يستقبلني بفرح واضح يتجلى في تحريك ذيله يميناً ويساراً، وتعبيراً عن حبه لي حاول أكثر من مرة أن يبول على قدمي فكنت أسرع برفعها وزجره وتقطيب الحاجبين فيبتعد ويذهب ليفعلها في الوعاء المخصص له.

كان الجرو، الذي سماه ابني (كيوس) يعني نهاية العالم، ينمو بسرعة وتزداد حاجاته، فقد تم تلقيحه ثلاث مرات، في الوقت الذي لا يوجد فيه لقاحات في كثير من البلدان للبشر، وأصدر الطبيب جواز سفر له يحمل اسم عائلتي دون أي نوع من التحقيق الأمني، فاصبح اسمه الرسمي (كيوس سعد)، وقلادة معدنية مكتوب عليها اسمه ورقم هاتف والده، يعني المسؤول عنه، وهو ابني، وهكذا أصبحت بقدرة قادر ”جداً“ للكلب كيوس سعد! مع كل ما يترتب على الجد من مهام وواجبات، وأصبحت ملزماً بشراء الهدايا له في المناسبات، واصطحابه إلى حديقة الكلاب الخاصة كي يلهو مع أصحابه. وقد تذكرت وأنا في الحديقة الكبيرة، بصحبة الكلب، محافظ حمص إياد غزال الذي اقتلع أشجار شوارع حمص، وكأن عداوة بينه وبين اللون الأخضر رغم عبادته لكلاب السلطة، فلم يترك بقعة خضراء للبشر. وكان من واجباتي الاهتمام به ليلاً اذا بدأ النباح. ومن حسن الحظ أنه كان قد فُطم قبل إحضاره إلى البيت وإلا لكانت واجهتنا مشلكة إرضاعه، والبحث عن مرضعة له في الحي.



شيئاً فشيئاً، اكتشفت أننا جميعاً أصبحنا متورطين في حب الكلب، وقد أدرك هو هذه الحقيقة، فبدأ يبتزنا ويملي شروطه علينا. كان يمزق ثياب الشخص الذي لا يعطيه الحلوليات المخصصة له بعد كل مرة يتبول بها أو يطرح فضلاته في العلبة المخصصة له، وكأنه يضربنا منية في ذلك، وإذا حدث وتم تجاهل رغباته، كان يذهب إلى الصالون ويبول هناك. في إحدى المرات كنت مشغولاً عنه بقراءة رواية سورية وصلتني أخيراً تتحدث الكاتبة فيها عن الثورة السورية، وكنت مأخوذاً بالرواية فعلاً، لأنني وجدت نفسي فيها منذ اللحظات الأولى، فما كان منه، وقد أصبح كبيراً، إلا أن قفز على السرير وخطف الرواية من يدي وركض إلى زاوية في الصالون وبدأ في تمزيق الصفحات ولوكها. قلت في نفسي، وأنا أجري خلفه، هناك عداء واضح بين هذا الكلب الحقير وبين الثقافة وكأنه كان عنصر مخابرات، وبينه وبين الكتب التي تكتبها النساء بشكل خاص. لا أعرف فعلاً، حتى الآن، إذا كان هذا العداء للأنثى وكتبها سببه أنه قد خضع قبل أيام إلى عملية جراحية تم فيها نزع خصيته كي لا يعتدي على كلبات الحي، فتضخّمت عنده النزعة العدوانية ضد كل الإناث. المهم أخيراً استطعت رشوته بعظمة جديدة، فرأى فيها ما يغريه أكثر من الرواية التي أهملها، فالتقطتها سريعاً، ووضعتها على رف عالٍ.

كان أكثر ما يغيظني في قصة الكلب الكندي ويذكرني بطفولتي المحرومة من كل شيء، حاجته إلى أنواع محددة من الشامبو تناسب جنسه، وإلى أنواع من الطعام تناسب كل مرحلة من عمره، وإلى فرشات وأغطية مريحة وملونة بألوان فرحة تدخل البهجة إلى قلبه، وخاصة حاجته إلى نوع خاص من الرمل كي يبول فيه. وقد كنت أتذكر كيف كانت النساء في قريتنا، في الخمسينيات من القرن الماضي، يبحثن عن نوع معين من التراب الأحمر الناعم جداً كي يوضع في حفاضات الأطفال، والذي لا يمكن أن يرقى إلى ربع مستوى رمل الكلب.

تذكرت هذا كله، وتذكرت طفولتي الحزينة مع تسعة من إخوتني وأخواتي في غرفة واحدة، وطفولة ملايين السوريين الذين حرمهم بشار الأسد من أهلهم، إما قتلاً أو تهجيراً أو اعتقالاً. تذكرت كل هذا وأنا أرى الإعلام الغربي يثور ويموج من أجل كلب دهسته سيارة، بينما يغضّ الطرف عن ملايين السوريين يموتون بالسلاح الكيمياوي وبقصف الطائرات وبكل أنواع الأسلحة. واستهجنت الدموع الرخيصة التي تذرف على حقوق الإنسان..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى