آنا أخماتوفا - نخب إلهٍ لم يعرف أن يخلِّصنا.. تر: جمانة حداد

كم من الأحجار رُمِيَتْ عليَّ!
كثيرة حتى إنِّي ما عدتُ أخافها،
كثيرة حتى إنَّ حفرتي أصبحت برجًا متينًا،
شاهقًا بين أبراج شاهقة.
أشكر الرماة البنَّائين
– عساهم يُجنَّبون الهمومَ والأحزان –
فمن هنا سوف أرى شروق الشمس قبل سواي،
ومن هنا سوف يزداد شعاع الشمس الأخير ألقًا.
ومن نوافذ غرفتي
كثيرًا ما سوف تتغلغل النسمات الشمالية،
ومن يدي سوف يأكل الحمام حبات القمح.
أما صفحتي غير المنتهية
فيدُ الإلهام السمراء
ذات الهدوء والرقَّة الإلهيين
هي التي سوف
من هنا
من عَلٍ
تنهيها.

سوف تأتي في كلِّ الأحوال، يا أيها الموت –
فلِمَ ليس الآن؟
إنني أنتظرك وقد نفد صبري.
من أجلكَ أطفأتُ الأضواء
وفتحتُ الباب –
يا بسيطًا كأعجوبة.
فتعال، من فضلك،
تعال في أيِّ قناعٍ ترغب:
انفجرْ فيَّ كمثل قنبلة غازية
أو تسلَّل واسرقني على غرار رجل عصابة،
سمِّمْني بدخانك التيفوسيِّ
أو كُنِ الأسطورةَ التي حلمنا بها أطفالاً
– التي ألِفَها الجميعُ حتى الاشمئزاز –
الأسطورةَ التي ألمح فيها طَرَفَ معطف أزرق باهت
ووجهَ خادمٍ شاحب من فرط الخوف.

لم يعد ثمة ما يهمُّني بعد الآن...
فنهر الينيسي يجري
ونجمة الشمال تلتمع
والرعب الأخير يُبهِتُ
البريقَ الأزرقَ للعينين المعشوقتين.

سوف أشرب نخبًا أخيرًا لمنزلنا المدمَّر،
لحياتنا التَّعِسَة،
لوحدةٍ عشناها اثنين.
وسأشرب نخبكَ أيضًا:
نخب خداع شفتيك اللتين خانتا،
نخب جليد عينيك الميت،
نخب هذا العالم الوحش،
ونخب إلهٍ لم يعرف أن يخلِّصنا.

الحنان الحقيقي لا يشبه شيئًا:
صامتٌ هو،
بلا جدوى، إذ تغطي كتفيَّ
وصدري بمعطف الفراء.
وبلا جدوى كلماتُك المهموسة
عن روعة الحبِّ الأول:
كم بتُّ أعرفها جيدًا
نظراتك هذه العنيدة والجشعة!

لا أعلم هل أنتَ حي أو ميت،
هل على هذه الأرض أستطيع البحث عنك
أم يمكن لي فقط،
عندما يخبو المغيب،
أن أندبكَ بصفاء في أفكاري؟

كلُّ شيء لك: صلاة النهار،
حرُّ الليل الأرِق،
والأبيضُ من سرب أشعاري،
والأزرقُ من نار عينيَّ.
لم يُعشَق أحدٌ أكثر منك،
لم يعذِّبْني أحدٌ أكثر منك –
ولا حتى ذاك الذي خانني حتى كدتُ أحتضر،
ولا حتى ذاك الذي غمرني ورحل.

لقد علَّمتُ نفسي أن أعيش في بساطةٍ وحكمة،
أنظر إلى السماء وأصلِّي للرب،
أتنزَّه طويلاً قبل نزول المساء
كي أُنهِك همومي الباطلة.
وعندما الأشواك تصنع حفيفها في الوهاد،
وعندما تتدلَّى عناقيد السُّمَّن الحمراء،
أكتب أبياتًا فرحة
عن انحطاط الحياة،
عن انحطاطها وجمالها،
ثم أعود من نزهتي.

الهرَّة الكثيفةُ الوبرِ تلحس راحة يدي،
تخرخر في نعومة،
والنار تتوهج فجأة
على برج المنشرة الصغير عند البحيرة.
وحدها صرخة لقلق يحطُّ على السقف
تكسر الصمت بين الفينة والأخرى:
لقد علَّمتُ نفسي أن أعيش في بساطةٍ وحكمة،
حتى إذا قرعتم بابي
لن
أسمعكم
ربما.

هكذا هو الحب:
تارةً يتلوَّى كمثل أفعى
ويمارس سحرَه في أنحاء القلب،
وطورًا يهدل كيمامةٍ
على حافة نافذتي البيضاء.

هكذا هو الحبُّ:
قد يبرق على الجليد المتلألئ
أو يتراءى لي في غفوة القرنفلة،
لكنه، في عنادٍ وصمت،
يخطف منِّي راحة البال.

أسمعه ينتحب في رقَّة
في صلاة كمنجتي المعذَّبة،
وكم أخاف حين يعلن قدومه
في ابتسامة رجلٍ غريب.
أنا صوتكم، يا عشَّاقِيَ الكاذبين،
وحرارةُ لهاثكم،
وانعكاسُ وجوهكم في المرآة،
والخفقان الباطل لأجنحتكم الباطلة...
لا يهمُّ من أنا،
فحتى اللحظة الأخيرة سأرافقكم.
لهذا تدَّعون حبِّيَ في جشعٍ،
على الرغم من ذنوبي وشروري،
ولهذا تعهدون إليَّ بخيرة أبنائكم.
لهذا لا تسألون عنه قط
وتطوِّقون منزليَ الخالي على الدوام
بمدائحكم الدخانية.
لهذا تقولون: لا يمكن لاثنين أن يلتحما أكثر منَّا،
وتقولون: لا يمكن لأحد أن يحبَّ امرأة في جنون أشد.

مثلما يتوق الظل إلى الانفكاك عن الجسد،
مثلما يتوق الجسد إلى الانفصال عن الروح –
هكذا أنا اليوم.
أتوق، يا عشَّاقي الكاذبين،
إلى أن تنسوني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى