إيفان تورجنيف - حلم نهاية العالم.. قصيدة نثر - ترجمة: محمد عيد إبراهيم

تخيّلتُ أني في إحدى بقاعِ روسيا، في البريةِ، في منزلٍ ريفيٍّ بسيطٍ، بغرفةٍ كبيرةٍ معزولةٍ واطئةٍ بثلاثِ نوافذَ؛ الحوائطُ بيضاءُ؛ من غيرِ أثاثٍ. أمامَ المنزلِ وادٍ أجردُ؛ ينحدرُ لأسفلَ تدريجياً، يمتدّ إلى بعيدٍ؛ فوقهُ معلّقةٌ سماءٌ رماديةٌ رتيبةٌ، كقبّةِ سريرٍ. لستُ وحدي؛ عشراتٌ معي بالغرفة. بشرٌ عاديون، ملبسُهم بسيطٌ. يمشون جيئةً وذهاباً في صمتٍ، كأنهم يمشون خِلسةً. يتفادَى أحدُهم الآخرَ، مع ذلك ينظرون بقلقٍ إلى أحدِهم الآخر. لا يعرفُ أحدٌ لِمَ جاءَ إلى هذا المنزل وأيّ بشرٍ هنا معهُ. على الوجوهِ توتّر وقنوطٌ... كلّهم يدنو بدورهِ من النوافذِ يتطلّعُ حولهُ منتَبهاً كأنهم يتوقّعون شيئاً من لا شيء. ينزلون من جديدٍ فجأةً. بيننا ولدٌ بحجمٍ دقيقٍ؛ يتذمّرُ من وقتٍ لآخرَ بصوتهِ الحادّ "أبي، أنا خائف!" فيمرضُ قلبي من تذمّرهِ، وأنا أيضاً بدأتُ أخافُ... مِمّ؟ لا أعرفُ. أحسّ ببلاء كبير يقترب. يواصلُ الولدُ عويلَه. ليهربَ من هنا! كم كانَ الجوّ خانقاً! كانَ مضجراً! وثقيلاً... لكن الهربَ مستحيلٌ. سماءٌ كالكفنِ. ومن دونِ ريحٍ... هل مات الهواءُ، أم ماذا؟ يركضُ الولد فجأةً إلى النافذةِ ويزعقُ بالصوتِ نفسهِ الجديرِ بالشفقةِ "انظروا! انظروا! الأرضُ تنشَقّ!" "كيفَ؟ تنشَقّ؟" نعم؛ كانَ هناك وادٍ أمامَ المنزلِ، والآنَ نقفُ على ارتفاعٍ مخيفٍ! غارَ الأفقُ، هبطَ، ومن المنزلِ القريبِ تسقطُ شرفةٌ، في تجويفٍ، بجرفٍ أسودَ. فازدحمنا جميعاً على النافذةِ... الرعبُ جَمّد قلوبنا. "ها هي... ها هي!"، همسَ امرؤٌ جنبي. وانتبه، على طولِ حدّ الأرضِ، بدا شيءٌ يثورُ، نوعٌ من شجرٍ صغيرٍ مستديرٍ بدأ يحوّمُ ثم يسقطُ. "ها هو البحرُ!"، لمعَت فينا الفكرةُ اللحظةَ ذاتَها. "سيبتلعنا جميعاً على التوّ... لكن كيف تأتّى لهُ أن يكبرَ ثم ينهضَ مرتفعاً؟ نحو هذا الجُرفِ؟" مع ذلكَ يكبرُ، يكبرُ بحدٍّ هائلٍ... لم يكن ثمةَ شجرٌ ينفصلُ مُحوّماً على مسافةٍ... موجةٌ هائلةٌ مستمرّةٌ تعانقُ دائرةَ الأفقِ الكاملةِ. تنقضُّ، وتنقضّ، علينا! في إعصارِ ثلجيٍّ تطيرُ، دائرةً في ظلامِ الجحيمِ. كلّ شيءٍ يرتجُّ ـ وهناكَ، بهذهِ الكتلةِ الطائرةِ ـ هزيمُ رعدٍ، عويلٌ صلبٌ لآلافٍ من الحناجرِ... آه! يا لهُ من هديرٍ وأنينٍ! كانَت الأرضُ تعوي من الفزَعِ... نهايتُها! نهايتُنا! تذمّر الولدُ من جديدٍ... فحاولتُ التشبّث برفاقي، لكننا كنا قد حُشِرنا معاً، طُمِرنا، غُمِرنا، اكتسحَتنا موجةٌ من ظلامٍ دامسٍ، ثلجيةٌ رعديةٌ! ظلامٌ... ظلامٌ أبديٌ! بمشقّةٍ أتنفّسُ، فأستيقظُ.

Mohammad Eid Ibrahim

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى