جودت جالي - حلم عشوائي..

الى روح الكاتب التركي العظيم عزيز نسين


في ذلك المعسكر الصغير المهجور، وعلى أنقاض القاعات التي هدمتها مجاميع من الناس أتت من حيث لايعلم أحد وباعت حديدها وطابوقها ثم مضت الى حيث لايعلم أحد، بنيت عشرات البيوت الشوهاء فبدت مثل رقع مختلفة المساحات، متراصة على شكل صفوف متعرجة، من خلفها ويمينها أرض واسعة تفصلها عن المدينة إمتلأت بأكوام أنقاض البناء والإسفلت والقير، والى يسارها غير بعيدة تلال مكب النفايات، ثم أرض إمتلأت بالأنقاض ذاتها تصعد نحو الأفق وتخفي عن النظر الجانب الآخر من المدينة. هناك جلس رجلان وقد أعطيا ظهريهما الى الحي الرمادي المبقع بألوان متنافرة، ينظران عبر الشارع المعبد الى خط من النخيل تمتد خلفه مزارع شاسعة نحو دجلة. أحدهما يرتدي سترة وبنطالا عتيقين ويعتمر طاقية وسخة تخفي صلعة تعتلي رأسا صغيرا لا يتناسب وضخامة جسمه، والآخر يرتدي دشداشة وقمصلة جلدية ويعتمر كوفية حائلة اللون، وكلاهما ينتعل نعالا من الجلد يكاد لايبين للناظر عن بعد، ولايميز لونه عن لون بشرة قدميهما.

كانا يتبادلان حديثا متسكعا بصوتين خفيضين، ولم يكن يبدو عليهما أنهما ينتظران أحدا أو شيئا، ولكنهما حين شاهدا الحافلة الصغيرة تتوقف وينزل منها الرجل العجوز بدشداشته الأنيقة ذات اللون السنبلي الداكن الذي يبعث إلتماعات على إيقاع حركات جسمه المعتدل برغم الشيخوخة، حاملا شتلتين، شتلة سدر وشتلة يوكالبتوس، نظرا إليه بفضول وإهتمام غير ودي، سلم عليهما مبتسما وأضاف:

-كيف حال الرَبْع؟

لم تخف عليهما السخرية التي إنطوى عليها السؤال. ردا على سلامه ببرود ولم يجيبا على سؤاله. راقباه وهو يتجه الى أول بيت ويفتح بوابته ويدخل. كان هذا البيت سابقا دائرة إستعلامات المعسكر وهو الأوسع في الحي، فيه حديقة ومسيج من الواجهة بالآجر ومن جهاته الأخرى بقطع من الصفيح المضلع المرقش بالصدأ. عادا الى النظر أمامهما. قذف ذو الكوفية عقب سيجارته بضربة من سبابته فراح العقب يتقلب في الهواء حتى إستقر على قير الشارع. نفث بقايا الدخان وقال:

- لايبدو عليه أنه ينوي أن يموت.

- لقد نكث عهده.

- وهاهو يغرس خلال شهر حوالي عشرين شتلة.

- نعم.. والحديقة أصلا كانت مزروعة بالثيل وبعض الأشجار. أحسن الهرم الإختيار. نزل في إستعلامات المعسكر قبل أن تُهدم وسيج ما حولها سريعا.

صمتا وعادا يصوبان الى الأمام نظرات ساهمة. تناهت إليهما ضحكات طفولية فإلتفت ذو الطاقية الى مجموعة من الصبيان والبنات قد جمعوا قناني وأغراضا عتيقة محطمة داخل بناء غير مكتمل بنيت حيطانه بعلو متر وتُرك ليدل على أن أحدا وضع يده على قطعة الأرض فلا يقربها غيره. كان الصبيان والبنات يلعبون لعبة (بيت أبو بيوت) وقد صفوا حاجياتهم على الحيطان وفي الداخل. تذكر إبنه فدمدم:

- أين ذهب الأبله؟ لقد تأخر. كل يوم يعود من المزبلة قبل هذا الوقت وقد ملأ كيسين بالعلب وكسر النحاس.

كان محل التاجر الذي يتعامل معه صبيان ونساء الحي في الطرف الآخر من الحي على الشارع، محل كأنه بني على عجل من بقايا آجر القاعات وطابوقها، لايوجد فيه سوى الميزان وكوم من الأكياس المحشوة بالعلب المعدنية والنحاس لاتلبث أن تأتي سيارة شحن صغيرة تنقلها الى معامل في الحي الصناعي.

إلتفت الى صاحبه حين سمعه يقول:

- تصور كم سيكون حظ ساكن بيت هذا الهرم حسناً إذا صار التمليك... بيت واسع وركن وعلى شارع تجاري...

وأضاف موضحا بعد لحظة صمت وكأنه يرد على نظرة صاحبه المشككة الساخرة:

-......... طبعا... إذا تمليك... يكون هذا الشارع تجاريا.

سأله ذو الطاقية بحنق:

- ألم تؤكد لي أنه ميت لا محالة وورطتنا هذه الورطة؟

- لا تتعب قلبي... والله كان مشرفا على الموت... لا أدري ما حدث. ربما عمّر نفسه بفلوسنا.

ضحك ذو الطاقية بوهن:

-... إي..

أطلق ذو الكوفية آهة مديدة وقال:

- يعني صعبة عليهم أن يملكونا قطع أراض جوار هذه المزبلة أو في مكان آخر؟ إذا كان على الإستحقاق يمكنهم التأكد من دائرة العقاري ليعرفوا من يستحق ومن لايستحق، من هو مهجر مثلي ومن هو متضرر مثلك ومن هو المحتال. ماذا سيخسرون؟ الأرض موجودة. هل سيصنعونها أم يشترونها؟

- واصل حسابك! خليها سكتة!

- على رأيك.

بدا لذي الكوفية أن خيار صاحبه بالسكوت منطقي، ولكن رغبته في الحديث عن أمور طالما كررا الحديث فيها خلال جلسات العطالة التي داوما عليها منذ فترة عاودته من جديد وبإلحاح حين تناهى إليهما صوت المجرفة بين يدي الرجل العجوز تتوالى ضرباتها على الأرض ، وإلتفت ليراه من خلال فرجة بين الحائط والصفيح وقد أتم غرس شتلة وراح يضرب التراب بالمجرفة ليساويه حول الشتلة. دنا من صاحبه قليلا وهما على جلستهما على الكتلة الإسفلتية التي كانت فيما مضى جزءاً من قوس بوابة المعسكر وقرب فمه من أذنه ليقول همسا:

- يوجد عدد من الذين يمتلكون بيوتا في مناطق أخرى يسكنون هنا في هذه القذارة.... شيئ عجيب... ماذا يفعلون هنا؟

- عمي ناس تعرف تشتغل. مثل الذي إشتريت منه البويت الذي أسكن فيه وعائلتي مقرفصين لضيقه. سيج مئتي متر، قسمها الى أربع قطع، كلما بنى قطعة باعها لمضطر لينتقل الى الأخرى، وهكذا هو الآن يسكن الرابعة....

صمت وإلتفت نحو مكب النفايات، كان وهو يتحدث مشتت الذهن، مشغول البال بغياب ولده. لم يكن مرتاحا لترك إبنه يتجول ساعات في تلك الوهاد التي صنعتها أكوام الأزبال منذ أن بدأ أناس غرباء يأتون لتقليب النفايات وجمع اللقى الثمينة التي ربما إنطوت عليها كومة هنا وكومة هناك، فتيان غير مريحين تبدو عليهم الوقاحة و... الفجور حتما. قرر أن يأخذه معه الى مسطر العمل كلما سنحت الفرصة ليتعلم مهنة خير له من التمرغ بالأوساخ. فليعد سالما فقط واللعنة على مكسب الزبالة الحقير...

سمعا من جديد صوت ضربات المجرفة حول الشتلة الثانية. إلتفتا معا نحو العجوز الذي كان لايزال ظاهرا لهما من بين الجدار والصفيح وإن أصبح أبعد قليلا. تمتم ذو الطاقية:

- لا يبدو عليه أنه سيموت قريبا.

- عجيبة يا أخي...

- لا عجيبة و لا هم يحزنون.. لقد كنا مغفلين. كيف عقلت أنت أن تكاتب رجلا على شراء داره وتسلمه المال ويكون موعد التسليم بعد وفاته؟

- لكنك كنت مقتنعا مثلي.

- نعم.... بشراء الدار وليس بشيئ آخر. المصيبة أني سلمتك المليون الذي جمعته بالكد أشهرا لتضمه الى مليونك وتعطيه له... لابد أننا كنا تحت تأثير سحر أو ما شابه.

- قال لي حين عدته أنه رجل مشرف على الموت وإذا ما مات فلا حاجة لعجوزه بالبيت، ستعود لتعيش مع إبنها والمبلغ سيعينها على متطلبات الحياة فلا تمن عليها كنتها أو تتضايق من وجودها.

- كم أنت مسكين... وسارعت الى دس المبلغ تحت وسادته؟

- لماذا تستغرب من هذا الإتفاق... أنا عرفت رجلا فلاحا إبان حرب من الحروب التي مرت علينا إستدان ألف دينار ليستطيع زراعة أرضه في الموسم وموعد السداد عندما يأتون بجنازة ولده ويقبض المكرمة.

حدجه ذو الطاقية بنظرة إندهاش:

- حقا؟

- والله العظيم... على كل حال نحن لدينا المكاتبة ولا يستطيع الإنكار و.....

قاطعه ذو الطاقية:

- وما نفعها؟ مكاتبة تقول "عند وفاة الطرف الأول"... ستجعل الجميع يسخرون منا. أسكت لا يسمعك أحد!

- طيب... والشاهد أبو زهوان؟ كان حاضرا ووقع.

- أنت جاهل... أبو .....؟! الأفاق الذي لا أحد يعرف عنه شيئا. لا أحد يعرف من يمثل ومن يسنده. سمعت إشاعات تقول أن إسمه هذا ليس إسمه بل هو شخص إدعى أنه مهجَّر ولكنه في الحقيقة غير ذلك. البعض يقول أنه مجرم إستطاع أن يخدع الجميع ويدبر أمره بمساعدة أناس ليجد له ملاذا هنا... الناس فيهم ما يكفيهم وليسوا مهتمين بمن يأتي ويذهب.... خليها سكتة!

- نعم.... الغريب أنه كان يوجد هنا من يشرف على السكن ويدقق في خلفيات الساكنين.. ولكنهم كأنهم فص ملح وذابوا.... ذهبوا وتركونا مع أمثال أبي زهوان. من حينها ونحن نشهد قادمين جددا أشكالا وألوانا..

ران الصمت عليهما لدقيقة ثم إلتفت ذو الكوفية ثانية الى الشيخ المنشغل ببستنة حديقته. همس في أذن صاحبه بإنفعال:

- زين... إذا لم يكن يريد أن يموت....

وإلتقط أنفاسه قبل أن يكمل:

-...... نميته نحن!

خزره ذو الطاقية ينبهه الى أنه شط بخياله بعيدا وسأله:

-كيف يا ترى؟

-إسمع! أعرف من يعرف الذي يعرف شخصا في منطقة أخرى يدعى عواد الأعور لا يخطئ الهدف.

-أعور؟ و لا يخطئ الهدف؟ كيف سيصوب؟

- الأعور مجرد لقب لمهارته في إستعمال القناصة... ألم تسمع بأن فصيل الأشغال في الجيش سابقا كان يسمى فصيل القناصين لأن أغلبهم عوران؟ أما هذا فهو قناص درجة أولى... يكمن له في مكان ما، إطلاقة واحدة ولايثني... بالجبين عدل... إنه يعمل بالأجرة... وبالمفرد... سبيشل. ربما نحصل منه على تخفيضات.

- ألا يستخدم المسدس ومعه كاتم الصوت؟

- لا...لا... المسدس ليس من إختصاصه ولكن قناصته معها كاتم صوت أيضا. يصوب من بعيد و... الله معاك يا منحدر!

نهض ذو الطاقية وهو ينظر الى صاحبه ويهز رأسه بمرارة:

- يا لعقلك!

نهض ذو الكوفية أيضا وتمتم بإرتباك:

- مجرد إقتراح.

- إقتراحك كمكاتبتك... كارثة.

- إنس الموضوع... كنت أمزح.... من حرقة قلبي.

تظاهرا بأنهما عابران منصرفان الى داريهما، لكنهما توقفا عند سياج الصفيح وأطلا على العجوز الذي كان يراقبهما من طرف خفي. قال له ذو الطاقية:

- يبدو أنك بصحة جيدة حجي.... ما شاء الله.

إعتدل العجوز وقال بمسكنة جاهدا أن يظهر إمارات الضعف:

- والله غصبا علي.. صحتي متدهورة... لكن الطبيب نصحني بأن أحرك نفسي قليلا.

- تحرك نفسك قليلا؟

- والحركة القليلة تتضمن البستنة؟

أجاب الشيخ بنبرة واعظة:

- إعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ولدنياك كأنك تعيش أبدا.

- تعيش أبدا!

- صدقت!

جذب ذو الطاقية صاحبه من رسغه وإبتعدا. بعد أن سارا مسافة قال:

- تعرف... سواء كنت تمزح أم كنت جادا.. هذا العجوز المحتال، من ناحية الإستحقاق، يستحق أن يُسلط عليه الأعور.

بعد خطوات توقف فجأة وإلتفت لذي الكوفية وقد إرتسمت على وجهه علامات الجد:

- قل لي... هل قُتل الإبن الذي إستدان أبوه ألف دينار؟

- لا... مات الأب في العام نفسه والإبن لايزال حيا يرزق.

- والمال؟

- لم يجرؤ الدائن على المطالبة به طبعا.

نظر ذو الطاقية طويلا الى صاحبه ثم دمدم:

- خليها سكتة!

وتركه متوجها بخطوات سريعة نحو مكب النفايات ليبحث عن ولده.

2009
من مجموعة (فك الحزن) 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى