عمار التيمومي - منزل المهيري قرية حالمة على ضفاف زرود..

أقيمت البناءات ثنائيًّا فهي كما التّوائم يلتصق جسد البيت لَحًا بجسد صِنْوِه. فتكون وجهةُ الأوّل شرقًا لتُغَرّب وجهة الثاني. وكلّ بيت به حُجرتان مُبلّطتان تَدْلف من الأولى إلى الثّانية، يُنيرهما الكهرباء، والأسقف آجر معقود هلاليُّ الاستدارة. يلتصق بهما مطبخ صغير ذي مصطبة، لتتعوّدَ النّسوة على الطّبخ وقوفًا بعد طول قرفصاء.. وجنب المطبخ الكنيف وهو بناء صغير يُحرج سذاجةَ العُربان. وسيخلّصهم بالدّربة من اللّجوء إلى أكمات الصبّار والتّين الشّوكيّ. فالمراحيض -يا أبت- كانت في بدايتها عنوانَ تحوّل من مجتمع زراعيّ منفسح إلى حياة حضاريّة تلتزم بعقود الاجتماع الجديد وخصوصيّاته. ويلُفّ جناحيْ البناية سُورٌ قصيرٌ بِبابٍ أقصرَ. وقدَر النّوافذ والأبواب زُرقةٌ سماويّةٌ تُوشّي بُيوضةَ الجدران والأسقف. غير أنّ الرّيفيّين ما قدروا على التخلّص دفعةً واحدةً من حياة الرّيف ولوازمه. فكان لزامًا عليهم أن يجرّوا بعض آثارها لتمتزج بحياة المدينة. فلا غِنًى عندهم عن حظائر الدّواب والحطب وبعض آنية الطبخ الطّينية كـ: فُرْن الطّابونة وطاجين الغنّاي وقِدر البُرمة وما لفّ لفّها…
وبين أقسام المساكن الشّعبية تنتصب كوشة سعسوڨ وحمّام عبد المجيد العيّادي. وإلى الجهة الشّرقية التّعاضدية وقُبالتها دار الشّعب وروضة الأطفال تلك التي دشّنها عضو الدّيوان السّياسي وقتها الباجي قائد السّبسي.
ولكلّ بناية عموميّة حكايات وفصول… زد إليها الحنفيات العموميّة المجّانيه. ويذكر الصّبيّ ثلاثًا منها : سبّالة أحمد بن نصر وسبّالة عبد العزيز العجبوني وسبّالة بلقاسم بن زعرة. ولا يخفى عن عينيه البصيرتين ما كان يلتئم حول الماء من شغفٍ، شغف لقاء العطاشى بالمعين وشغف لقاء الصبّ بالمُحبّين في غفلة من أشياخ القوم وحولها تُتبادل رسائلُ العُيون ولن أزيد عن ذلك حفظًا للأسرار …. ومنها تُحتفر الجَعافر والسّواقي باتّجاه البيوت لتكون أمام كل بيت حفرة تمتلأ ماءً. فتُسقى منها أحواض الخضر وشجيرات الغلال حول المنزل من توت وتين وزيتون وغيرها ويظلّ الأهلون مغتبطين. فعند رأس العين تُلتقط الأسرارُ، وتُعلن الأخبار وتُتبادل رغباتُ المصاهرة ونحوها… وتطول حول السبّالة حكايا النّسوة اللائي كثيرا ما تعلّلن بورود الماء وهنّ يردن أخبارا وأسرارا وحوارا. فالسّبيل الوحيدة التي تعلو عن الرقابة الصّارمة. بل وتنفلت منها ،هي سبيل السّبالة. فلا رقيب ولا حسيب إلاّ قرصات الخالات على أفخاذ البنات وعتب الكبير عابرا على تهتّك الفِتيان. فينسحبون كفراخ الحجلة شذر مذر…
وفي سنة 1968 ستلتحق بالقرية مؤسّسة اجتماعية ذات أهمّية وخطورة في آن. هي مقهى سعسوق ملتقى الشّباب وحكاياته والكهول الذين قبلوا حياة المدينة. أمّا الشّيوخ فما وجدوا عن لانڨار: التّعاضدية وحانوت لامين وحانوت صمهود بديلاً.
يقوم إلى جانب القهوة حانوت الشّيخ سالم وهو عبارة عن مكتب يؤمّه ذوُوا الحاجات ومُساعدو الشّيخ ومُؤانسوه وطالبو رُضوانه. فلا يكاد يخلو من بن صويلح ولا من حمدة السّالمي وغيرهم إن وددنا العدّ كثير. وبين المقهى وحانوت الشّيخ يقوم حانوت بلقاسم بُوراس والهادي بن عيّاد وهو ڨمرڨ مع مواد غذائيّة وأدوات وقود كالڨاز والفحم ورغبات أهل القرية.. إلى جانبها حانوت شطيبة جزّار القرية و حانوت محمد لحمر الحميدي حلاّقها.
وتفخر القريةُ بمناقب جملة من الرّجالات البيضاء وُجوههم المُنبسطة أيادي العطاء منها فلا أحد ينكر على الحاج الطيّب دعمه الفلاّڨة والمقاومين بالمؤونة وتخطيطه لمساعدة الجرحى منهم في غفلة من عيون جند حامية نصر الله من جندرمة الفرنسيس…
كما لا ينسى النّاس هنا دور “المجرم” ذاك الذي كان يتسلّل إلى قاطرات القطار المليئة قموحًا تراها العين وتموت كمدًا. فيصعد على ظهر الدّودة الحديديّة ليُلقي بالأكياس حيث المفازات من الأكمات ويعود إليها لاحقا ليوزّعها على المُحتاجين. فلا معنى وقتها للبيع والشّراء متى تعلّق الأمر بموادّ الغذاء أو أساسيّات الحياة من تنوير وماء.. فعلى الدّولة وحدَها التكفّل بذلك وغيره من الحاجات الحياتية.. ورغم شظفها فالحياة في هذه الدّيار آسرة.. ويسعد السّكان بِخُلُوّ البال من كلّ كربٍ. فلا ضائقةَ بلا رجاء ولا رجاء يُخْلفه العطاء
ولعلّك إن ذكرت منزل المهيري هذه القرية الوضاءة وما أدخلته على حياة النّاس من نظام مدنيي ، ذكرتَ أنّها ما خلت من التأثر بخصوصيات سكّانها، فكما ينفعل الإنسان من المكان يفعل فيه هو أيضا. ويطوّعه لخصوصيّاته الاجتماعية والنّفسية وعاداته وخصال أه‍له. فلئن كان الإنسان ابن مهاديه الطّبيعة والتّاريخ، فهو خير الفاعلين فيهما كليْهما في الآن نفسه.
فإن تنسى الذّاكرة لا تنسى ذاك الكهل فارع القامة دقيق السّمرة بهيّ الملامح. إنّه عبودة غريسي إسكافي القرية ومُستقرّه حذو حانوت صمهود. بيد أنّه في شهر رمضان يضحي أكثرَ حركيّة وأدخل في القلوب وأقرب إلى الذّكر. فهو مسحراتي القرية يدقّ طبله إيذانا بالإفطار وتحذيرا من تجاوز الإمساك. فالعمّ عبودة وطبله فرصة للتخلّص من يوم صوم طويل وفرصة للصّبيان أيضا يتعقّبون الطّبل وينشدون الرّقص على قرعاته.. آه ما أخطر وقع الطّبل في آذان أهل القرية وحوله يجتمع النّاس وعليه يجمع الإحساس. إذ لا أحدَ من بني جلاص تقريبا يخلو من التأثر بهذه الآلة السّاحرة رغم بساطتها.
بل إنّ الطبول ذات مآرب شتى قرَعَتها الخليقة إيذانا بالحروب واستنفارا للثبور وعظائم الأمور ويقرعها آخرون توديعا لعزيز أفل نجمُه. فتكون القرعات محزونة كدِرة أمّا العمّ عبودة فيقرعها إيذانا بانقضاء الصّوم وحثّا على بدئه وما بين الزّمانين قد يستجيب لرغبات الطّفولة الرّعناء. فترقص على أنغامه وتظلّ الأذهان ذاكرة فضل هذا الرّجل وأثره في حياة العطاء…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى