محمد الشايب - زفزاف و بوزفور.. قصة قصيرة

فجأة، صرت طفلا، لم يسبق لي أن مررتُ من طريق الطفولة، ولم ألعب مع الأطفال. وُلدت رجلا، فحملتُ القفة، وسرتُ في الأسواق، تهتُ في سراديب الأقفاص، ولم ألاحق الفراشات، توغلتُ بي مراكب السنين في بحر العمر، فلبستُ أرقاما، ومشيتُ في دروب، ولونْتُ سمائي ألوان، ولم أعش كل الفصول.. وفي غمرة الحزن نسيتُ أن ألعب، طوقتني أقفال الأمر والماضي، فلم أجرب النظر إلى الأمام، ولا الابتعاد عن حضن الطاعة..، ظللت أردد لازمة مملة، وأمحو، وأكتب على اللوح نفس الحروف، وفجأة، وجدتُ طفلين يلعبان، يُجيدان اللعب، رأيت في لعبهما سحرا يتلألأ، وأسئلة تهطل، وقلقا يهبُّ وسمعتُ ألحانا، لم أسمعها من قبل.
اقتربت منهما قليلا، وسألت الأول عن اسمه، فمسح لحيته، وأجاب: أنا زفزاف... وسألتُ الثاني، فسالت من ثغره ابتسامة فسيحة، وأجاب: اسمي بوزفور..، بللتني سحب الدهشة، ومضيتُ تحت قصف الأسئلة، وألسنة القلق، سرت أتصفح سطور الليل، فسمعت مناديا ينادي باسمي..، تبعتُ مصدر الصوت، لكنه أخذ يتلاشى، ثم مضى في مهب الريح.
تحرك الطفلان يرسمان حروف اللعب، يسيران في دربين كأنهما درب واحد، يلجان بيوتا مغلقة، ويفتحان، رفقة الفاتحين، جزرا ترتفع فيها الحرارة، ويسيل العرق، فيدخلان أشواطا جديدة من اللعب. قال قائل: إنهما لاعبان مختلفان، لكن زفزاف و بوزفور صاحا بصوت واحد: إننا نلعب نفس اللعب، وواصلا محو البياض، يطيران تارة في سماء الحلم، وتارة في سماء السؤال، وتارة في سماء الشك..، يتعدد الطيران، وتختلف ألوانه، فينهض قائل آخر يصيح: إنهما طفلان مختلفان! أحدهما يلعب وسط الناس، يرافقهم حيثما ساروا، ويذهب معهم إلى الأسواق، ويدخل مع الفقراء منهم إلى البراريك والأكواخ..، والآخر يلعب وحيدا مرآته ذاته، وزاده حلم وشك وتيه..
لم يتكلما هذه المرة، ظلا يلعبان، وكأنهما لم يسمعا شيئا، فصحتُ، أنا، بأعلى صوتي: إنهما يلعبان نفس اللعب..، نظر إلي القائل نظرة يتطاير منها لهيب القسوة، وصاح: وسيرْ تلعبْ مع اقْرانك آ آ آ الدَّري راك باقي صْغيرْ..!
صدمتني صيحته، لكنها أفرحتني أيضا، لأن في ثناياها أمراً باللعب، ظللت أتلقى الأوامر، لكن لا أحد، قبل هذا القائل، أمرني باللعب، كلهم صفعوني بلاءات النهي، وأبحروا بي في أسفار الماضي، وهو وإن نهرني، ونبهني إلى أني مازلت صغيرا، لكنه في نفس الوقت أمرني باللعب مع الأقران..
لكن ماذا يقصد بالأقران..؟!
افترق الطفلان، فتبعتهما معا في نفس الآن، التقيتُ الأول في مدينة تلبد السحب سماءَها، وهي مزار للطيور الغريبة، وللمطر الغزير، قلبها ينبض برياح العشق، يحيط بها النهر والبحر والغابة، وتمضي في المجهول، دخلها الغزاة مدججين بالأطماع، وولوا خائبين، لا تسلم أسرارها، ولا يقدر أحد على فتح علبتها السوداء..، نظر إلي، وقال وهو يشير إلى الشوارع التي غطاها الرماد، وإلى الميناء الذي أتعبته السفن والسنين: هنا بدأتُ اللعب، وهنا شممتُ روائح الأفواه الجائعة، ورأيتُ الناس يشيعون إلى قبور في الماء.
أما الثاني، فالتقيته في مدينة كبيرة، من دخلها لا يخرج منها، تفتح أحضانها للجميع، أشجار أسرارها وارفة الظلال، وزفراتها تزمجر في كل زمان، أحبها الغرباء، ولاذوا بها هاربين من الجحيم، فلم يجدوها لا جنة ولا جحيما، وإنما خليط كر وفر، قيض وفيض، وجوع وخبز..
فتح لي كتابه، ومشيتُ في شوارع الأحلام الفسيحة، وتِهتُ في صحارى الشك الشاسع، وقطفت ما لذ وطاب من فواكه الجمال. حلا لي النظر في وجهه العزيز، وركبتُ سطوره ما غبر منها وما ظهر، واستمتعتُ بألحان ققنس، ووجلت الداخل عبر النوافذ، فسبحت في مياه السؤال العذبة المعذبة، ثم لبستُ الشك، وخلعتُ اليقين..!
سارا معا، ابتعدا عني، فبقيتُ وحيدا، جربتُ الدروب، وخطوت في اتجاهات شتى، قيل لي كلام كثير، ولم أسمع منه إلا القليل، صادفت علامات، ولم أفك إلا النادر من الألغاز، ظللتُ أسير، فسلمتني الدروب المتتالية إلى شارع فسيح، تبعته حتى وصلت منزلي، دخلته وقد تحول رأسي إلى غابة من علامات الاستفهام، ولجتُ المكتبة دون أن أشعل الضوء، جلست على الكرسي، وغطيت وجهي بيدي، وظللت أسبح في الظلام، تراءت لي السنابل توزع أطباق الجوع، والأجوبة تفر من الأسئلة، وعواصف التيه تبرق وترعد وتهطل..
خرج بوزفور من المكتبة، وسلمني أوراقا وقلما، ثم خرج زفزاف وقام بنفس الشيء، وقالا بصوت واحد: هيا العبْ..!
ومضيتُ مغامرا على متن اللعب، تزودت بجراحي القديمة والجديدة، وتجرعت كؤوس الألم، وتشابهت في طريقي كل الفصول..، لعبتُ هنا وهناك، ولجتُ حارات المجانين، وتهتُ في أزفة الضياع، حلقتُ في سماء الشك العالية، وتظللتُ بظلال اليقين في أحيان قليلة، لعبتُ في ليالي العشق الطويلة، وجربتُ السباحة في بحر الذات.
واصلت المسير، أكتب وأمحو، أخيط، وأمزق، أنام وأستفيق، أنسى وأتذكر، أصيب وأخطئ، ألعب وأتوقف. كانت علامات الوقوف، في طريقي كثيرة، والعوامل المضادة للعب قاهرة، ومع ذلك أصررت على مواصلة الطريق، ظلت دهشاتي غزيرة، وأشواقي صحارٍ بواحات نادرة، وهمومي أسفار بنية تحملني إلى كل أقاليم الألم.
زفزاف مات، عفوا لم يمت، خُيل إلينا أنه مات مبكرا، وبكيناه، لكنه ظل حيا، يلقننا قواعد اللعب التي لا تُلقن. وبوزفور ظل وحيدا، يلعب وحيدا، ويحلق وحيدا، ويغني وحيدا، ويحلم وحيدا ، ويضحك وحيدا، ويبكي وحيدا..
وفي عز عُزلتي، وأوج غربتي جاءا معا، طرقا بابي، فتحتُ، دخلا، لم يجلسا، ظلا واقفين، في عينيْهما تسبح أمواج، وعلى شفاههما تغني طيور. سألاني بصوت واحد عن مصير القلمين والأوراق، فنهضت واقفا، وغرقتُ في دهشتي، ولم أجب، فخرجا، وحلقا معا بعيدا في سماوات اللعب، وبقيتُ وحيدا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى