إبراهيم صموئيل - كفاصلة وسط الكلام

لم يشغلنا محتوى الأمر الذي أطلقه السجّان كم خلف شبّاك المهجع بنبرة جافة، حاسمة: (ضبّوا غراضكم)، لأننا كثيراً ما ضببناها وحملناها منتقلين من مهجع إلى مهجع، بل شاغلتنا حركة أخرى، مباغتة تماماً: حين جمعونا أمام غرفة التفتيش وشرعوا يسلّموننا الأمانات التي كنّا أودعناها يوم دخولنا قبل سنوات. وسط تكتّم صخري من عناصر السجن عجزنا عن تفتيته. مما نكأ عنّا قشرة الاعتياد، وأتاح للتساؤلات والاحتمالات أن تتدفق بيننا وتربكنا عمّا عسى يكون هدف الإدارة من جمعنا هذه المرة، وكيف لنا أن نتدبّر تهدئة ما طاش فينا وتذبذب بعد أن تحوّلنا إلى قطيع دهمه ذئب المباغتة في بريّة منفسحة على المجهول، نقرّب ما نرغب فيه ونتوق إليه، ونستبعد ما قد يكون الغاية الوحيدة، متبادلين استفهامات الأمل، فلا يغنم السائل منا إلا سؤالاً شبيهاً يضيف إلى تحيّره حيرة أخرىّ .

ورغم اشتهائنا العطشان لما طفق أحدنا، بإصرار العارف، على إفشائه همساً بيننا: " إخلاء سبيل يا شباب ...بشرفي إخلاء سبيل".. إلا أن حدساً غامضاً دفعنا إلى تكذيب افتراضه،بل والسخرية منه، إلى أن شاءت الأقدار فجعلته الواقعة الوحيدة التي سنشهدها، ولكن في أغرب وأعجب حالاتها: حين سيخلى سبيلنا في قلب المدينة، وسط الازدحام، لدقيقة من الزمن أو يزيد، فنختلط مع الطلقاء، مسامرهم، ونصخب على غرارهم، حتى إذا ما تملّكنا شعور هانىء بأننا منهم، انتزعنا من بينهم، وأعدنا ثانية: سجناء كما كنّا عليها.

وستتلو سنون كثيرة على بقائنا في السجن- كما مضت أخرى قبلها- ولكن من دون أن تفارق تلك الواقعة أحاديثنا اليومية، أو تمحى من ذاكرتنا، أو تكف عن افتراش مناماتنا لكأنما تسعى، برشق دافق من برهاته، إلى إيقاظ ما كاد يغفو: تبدد من أرواحنا: لذة أن نكون طلقاء.

فنأي السجن على رأس الجبل، مجوّفاً من ضجيج الناس، وتشاغب الأصوات، وغبطة الضوء، راسياً في مضيق الوحشة، قد صيّرنا أشباهاً له، نسكن إلى خيبة من تسليم أننا خلقنا فيه، وفيه سنقضي.

ولم يطل الوقت، فبعد انتهاء التفتيش، رحنا نخطو، ممسوسين بالذهول، فرداً خارج البوابة الرئيسية الضخمة، عبر دهليز من حرّاس أشداء، نحو حافلة صغيرة يحوط بها مسلحون، نتلفت حولنا لنتلمّس ما يحدث، فنتعثّر بالتكذيب ونثقل بالخيل.

وفيما تحرّكت الحافلة نازلة من رأس الجبل، وماضية في الشوارع والمفارق، راحت تهطل علينا الأرصفة،والمحال، والبيوت ، والمارة ونداءات الباعة، وألوان السيارات، وصراخ الصبية،وأعمدة الكهرباء، ونداوة العتبات المغسولة، وقد تلفّعت ، كلها بغلالات شفيقة من ضياء وخّاز شغلتنا عن شاغلنا، وبعثرتنا بين محدّق بالمارة يماشيها بعينيه، وملصق وجهه بالنافذة ليضيّق ما استطاع المسافة بينه وبين الازدحام، وغارق في ارتعاشات كفيه، وهما تتلمّسان حرارة الشمس على أجساد الزجاج،ومغتبط يحوك بابتسامات صريحة نسيج الوصال مع العابرين، ومنكفىء إلى الخلف يعاود اغتنام المرئي، أو لملمة ما فاته التملي فيه، وقد سطا علينا، جميعاً، خرس بهيم سلبنا تماماً.

وكنا سنبقى هكذا، رهائن الصمت المنبهر الذي خطفنا، لولا اضطرت حافلتنا، من ضغط الازدحام، إلى التريّث حذاء حافلة أخرى صغيرة، كحافلتنا، سرعان ما التعرّف علينا والتحادث معنا.

ورغم ضجيجهم المندفع،فقد مكثنا، للحظة، دون حراك، حين تبيّن لنا بيسر، من ألبستهم المسماة وحقائبهم وتقارب أعمارهم، أنهم فريق رياضي، إذ حرنا فيما يمكن أن نشير به إليهم، أن راحت أصابعهم تنفتل بالسؤال العجول عن اسم فريقنا ووجهتنا، وقد بدونا لهم- من حقائبنا،ربما، وتقارب أعمارنا وحافلتنا- أننا فريق مثلهم أيضاً.

ألحوا في السؤال، وفاروا مثل رذاذ موجات تتلاطم بالصخور، طالبين منّا أن نفتح النوافذ ليتيسّر الحديث، ساهين، لا ندري كيف-- عن شحوب وجوهنا، واستلابنا، وعن تلك الأقفال الصغيرة التي كانت تحكم إغلاق نوافذنا بشدّة.

ولم نلبد في كهف الذهول طويلاً، فجعلنا نشوّح لهم كيفما اتفق، راسمين إشارات عشواء، لا نفهمها نحن أنفسنا، متبادلين معهم، ومع مارّة شاركونا وشاركوهم، ضحكات بكماء، ونحن نحوص كدجاج ذبيح، فنفتح أفواهنا ونغلقها دون أصوات، ونشير غلى اتجاهات لا على التعيين،مضيفين على جهلهم غموضاً حافزاً ندّى عيونهم بتساؤلات لجوجة مستغربة، إلى أن بتنا وإياهم، وسط الزحام الفضول، فريقين يتباريان، بالحركة والاندفاع والتنافس، أحدهما أبكم، والآخر طليق صائت.

من ضباب الالتباس، اندفع أحدنا نحو زجاج النافذة، فعرّانا تماماً، بحركة واشية، دالّة، لا تخطىء تفسيرها عين، وذلك حين أشار بسبّابته إلى صدره، رافعاً ساعديه، مصالباً باطن رسغيه،مما أغرى آخرين،من حافلتنا، للإيماء بالحركة نفسها، وأناخ على ركاب الحافلة المجاورة، جميعهم،وفي برهة واحدة، ما يشبه رعباً ثقيلااً، لزجاً،جمدّ أفواههم المفتوحة، وانتزع أصواتهم، مسمرًاً حركاتهم،فباتوا على هيئة كائنات بشرية آخر ما شعّ من عيونها، ذهول غير مصدّق.

وبنهزة متواقتة، حين ارتجّت وأقلعتا، تواثبنا، بفيض توق دفين للتواصل، نشوّح لهم، ونومىء، ونفور، متوسّلين منهم حركة، أو نأمة، أو صوتاً،يبد أن ذلك لم يحدث أبداً، مضت الحافلتان في طريقين متباعدين، تحمل إحداهما تماثيل من شمع سكون ذاهل، وتحزمنا الأخرى إليها، وقد طوتنا في مقاعدنا، فلا تعود نبصر ما يعبر عن زجاج نوافذنا وينتلق ولا نحن ندري- ساعتها- إلى أين ترانا نمضي.


إبراهيم صموئيل
نوفمبر 1999



إبراهيم صموئيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى