دعوة الحق - التجربة المسرحية في المغرب خلال 22 سنة

عرف المسرح المغربي خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1960 و1982 تطورات لا تخلو من إيجابيات. ولقد انعكست هذه الإيجابيات على بعض عناصره الأساسية دون عناصر أخرى. نتيجة التفاوت الموجود بين مؤثرات تحريكها، مما لا يساوي بين تطوراتها الجزئية ولا يوجد بينها في تكامل فني يمنحها اكتمالا ناضجا في كلية هذه العناصر.
لكن، مع ذلك. فإن إيجابيات هذه العناصر الأساسية. ساعدت على أن يتلمس المسرح المغربي طريقه ويحقق طفرات مشجعة، فتمكن بهذا، من مبارحة البطء الذي كانت عليه حركته، واستطاع أن يعرب عن شبه تحول فني مجزء التقدم والتجاوز.
معنى هذا أن ألوانا أخرى أخذت تبرز في دنيا المسرح المغربي، وقد برزت بالخصوص، في تقنيات الإخراج ومتطلبات العرض والتشخيص والديكور والاضاءة والتجهيز بعد سنة 1960 كما برزت في التأليف وفي تطوير إشكاليته ومراتبه، وفي إصباغه بصبغة يحاول المؤلفون والكتاب جهدهم أن يجعلوها متميزة ذات ارتباط بجدلية الواقع المغربي في تكاثفاته الاجتماعية والفكرية والحضارية نسبيا واعتمادا على المصادقة فقط أن هذه الألوان الجديدة التي جاءت آخذة بما تمخض عنه التفاعل الثقافي بالصدفة والاحتكاك الفني مع الثقافات والتيارات الإنسانية الأخرى، استطاعت أن ترهص بما يتوثب إليه المسرح المغربي الآن ليخرج إلى عالم الناس متحدثا بلغة أخرى قد يفهمها من هم خارج حدود المغرب.
لقد استمرت الاستمدادات التي كان يسترفدها بعض المسرحيين طافحة على السطح يستقطرون منها اقتباساتهم بشبه تطابق مع أصولها. وتظهر ملامح هذا الاستقطار في أعمال أحمد الطيب العلج (ولي الله)، و(حليب الضياف)، و(الأكباش) (1) و(النشبة) وغيرها، ذلك أنه لم يستطع الخروج عن مدار (موليير) إلا في نطاق جزئي لا يوحي بتميز في التصور أو اجتهاد في مزج الاقتباس بعملية الإبداع لكي يستقر اقتباسه على أرض مغربية يتشكل فيها مولده بما يتلاءم مع طبيعتها ، لكن ذلك لم يكن مزيلا مفتاح الحركة من يد الرجل تماما إذ كانت له فضائل تقنية تتمثل في تركيزه على الحوار المسجوع أحيانا والمنمق في لهجته العامية التي غالبا ما يخلطها بألفاظ وجمل فصحى أو قريبة منها، كما تتمثل هذه القصائد في اختيار نماذجه الاجتماعية وإيثاره لنفس الطبقات التي كان يركز عليها موليير. إلا أنه مع هذا كان يجهد نفسه ليلونها بما يوافق طبيعتها في البيئة المغربية بإثارة ما يخدم قضاياها الجزئية البسيطة وفي نطاق الفرجة التي ليس من ورائها هدف كثير.
هذه الاستمدادات التي كان يسترفدها مسرحيونا انشعبت انشعابا متعدد الصور بحيث يمكن تحديده في:
1) الاقتباس: ولقد طغت موجته فترة طويلة نسبيا، بحيث انه كمثال نجد عروض (الفرقة الوطنية للتربية الشعبية) المؤسسة في 1956 قد بلغت إحدى المرات اثنين وخمسين مسرحية مقتبسة كانت ضمنها اثنان وعشرين من اقتباس أحمد الطيب لعلج «وقد استقى مواضيعها من كتابات موليير أو ضمن الحياة الشعبية «كأمير الزلط» و«الشطاب» و«حادة» (2) وكانت غاية هذا النشاط الاقتباسي ترفيهية.
كما أن الطيب الصديقي اقتبس من مسرح العبث بجرأة ومهارة واتكأ على (صمويل بكيت) و(بوجين يونسكو) واستخلص من لا معقولية عبثية (تخص حضارة أوروبية مخالفة لطبيعة الحضارة المغربية الإسلامية) دلالات ذات تعدد في حركتها وسيرورتها وذات تخلص في ماهيتها ومرماها من القلق الميتافيزيقي الأوربي الأصلي، إذ حتى في التسميات، اختار ما يلائم البيئة المغربية بذكاء وبغرابة مقبولة جدا مثل (مومو بوخرصة) المقتبسة عن (اجديه).
ان ظاهرة لافتة للنظر قد طغت على السير المسرحي بالمغرب، هي اضطلاع جملة من المخرجين بتوجيه وخلق المناخ المسرحي تاليفا وإخراجا وتمثيلا وعرضا، وان طغيان هذه الظاهرة قد ترتب عليه ضمور بعض العناصر وازدهار بعضها الآخر، حسب غلبة هذا الجانب على ذاك عند هؤلاء المخرجين، وهذا ما جعل العناصر التقنية ترتفع مستوى عن العناصر الفكرية والموضوعية، مما لم يتوفر معه التكامل في النماء والتحديث والمواكبة الناضجة لسير التجربة المسرحية العالمية ، أي أن تأرجحا بين النقط والاكتمال قد حدث وصار يؤثر في تجربتنا تاثيرا ملحوظا، ولعل كثرة الاقتباسات عند العلج والصديقي والبدوي وحتى عند عبد الله شقرون وعبد الصمد دينية خلال فترة طويلة، نتجت عن انعدام الروية والتركيز وانعدام القدرة والتفرغ لتهييء وخلق النصوص المسرحية.
2) الترجمة: وان ما يقال عن الاقتباس يقال عن النصوص المترجمة أيضا تفرغ فترة لترجمة مسرحيات عديدة عن (صمويل بكيت) و(كلدوني) و(أونسكو)، و(جول رونار) وغيرهم، ورغم براعة الصديقي في عنونة مسرحياته المترجمة: (الوارث) و(في انتظار مبروك) و(مولات الفندق) فإنه لم يتألق مسرحيا إلا بحشده للتقنيات وبحسن استخدامه لها مع براعته الاخراجية والتمثيلية بذكائه في إيجاد تقابلات حميمة الصلة بين عناصر المسرحية الميدانية الفذة.
إبداعيا فإن الصديقي يأخذ بأشكال عديدة في مترجماته ويغترف من معين مختلط العصارة لكنه لا يقصد من اغترافه إلى هدف فني هادئ وعميق الدلالة والمرمى والبناء، وغالبا ما نجده يركز على تقنيته بمهارة وتيقظ وكذلك نجده يذهب إلى المزج بين الاقتباس والترجمة دون قصد هادف. المسألة، ببساطة، مبنية على مصادقات دائمة التغير بحسب تغيرات الأجواء سياسيا وفنيا وثقافيا بالبلاد، ولعل أكثر ما يقتل الفعالية المسرحية عامة، وهو الاتكال على الصدفة والركون إلى مقابساتها العابرة وكأنها خلق مسرحي راجح.
إن الرجوع، إلى أعمال مسرحية كبيرة لترجمتها وإعادة تشخيصها، مهم في حد ذاته، لكن الرجوع إليها لإعادة تركيبها بإبداع خصوصي ينطلق منها انطلاقا جديدا هو أهم بكثير من مجرد إعادة اجترارها وتشخيصها بالصورة الحرفية التي وردت عليها.
فلو نظرنا إلى (الكترا) و(فدوة) مثلا، لوجدنا أن عدة مسرحيين ومبدعين درجوا على إعادة تركيبهما بمفاهيم متطورة جدا، فكانوا بهذه الإعادة متجاوزين للسكونية ومضيفين أشياء إيجابية للمسرح الإنساني عامة. ولعل هذا ما يعوز مسرحيينا خلال المرحلة المحددة عندنا في هذه العجالة بمترجماتهم.
الترجمة الفرنسية المستعارة: !
ان ما يشخص حالات التردد والحيرة، جنوح بعض المؤلفين والمخرجين إلى البناء على مترجمات مسرحية فرنسية بنفس اللغة المترجمة بها (أي الفرنسية) ويمكن اتخاذ المسرحي المعروف (فريد بنمبارك ) كمثال على ذلك، حيث أنه عرض: (بنادق الأم كرار) لبريخث، و(نزهة في الريف) لارابال، في نطاق (المسرح الجامعي) وانه لم يكن من هدف يرمي إليه من هذا العرض لهما، سوى مجاراة المصادفة العابرة بانحياز ـ هو عين الترف المسرحي المغلوط ـ إلى مؤثرات دخيلة هجينة.
إزاء هذه المواضعة القائمة على المصادفة العابرة، ارتجت القيم المسرحية ارتجاجا مؤسفا، وبقيت هذه المصادفة متحكمة في سيرورتها، مما ترتب عليه انتكاس محقق.
على أنه يجب أن لا نفهم المصادفة على أنها شابهة لما قصده «جون تابغ» الذي نادى بتغيير كلمة شرح وتعويضها بكلمة «واقعة» التي تفتح مجالا للمصادفة (3)، ولكنها مصادفة ساذجة عند مسرحيتنا لا يحث عليها وعي أو مسؤولية ولا يصنع ظروفها احتكاك أو استنباط أو تفاعل في غاية التنبه والحرص، وغالبا ما يفضي أمرها إلى إخفاق متتابع، هذا وان كانت جهود بعض المسرحيين أحيانا تتجه إلى البحث الجاد لابتكار طرق أخرى ملائمة حتى في اختيار المترجمات أو في إعادة تركيبها بل وحتى في إعادة تنظيم الإخراج وكثيرا ما كان أمرها إلى فشل أيضا (4) رغم جديتها، لأن تحكم المصادفة في سيرورتها يصير سببا رئيسيا في فشلها.
التأليف والوضع: هذه صورة أخرى من صور الانشعاب الحاصل في عالم المسرح المغربي لكنها كانت دالة على شيء من الإيجابية ولا سيما مع ظهور جيل جديد كان يحاول جهده أن يبتكر ويحلق في فضاء مسرحي حقيقي (برشيد ـ العراقي ـ شهرمان ـ عبد السلام الحبيب ـ تيمود ـ محمد الكغاط الخ...
إن مسرح الهواة هو الذي أخذ يعطي للمسرح المغربي خلال عقدين من السنين نفسا جديدا في التأليف وأخذ يطور نفسه عن طريق تطوير جهود المؤلفين والمخرجين معا، فكانت صورة هذا التطوير تصاعدية في الغالب، ذلك أنه منذ أن عرضت مسرحية «خروب بلادنا» لعبد الهادي بوزوبع سنة 1960 بالرباط حدثت وثبات متتابعة أطرد بها الصعود النسبي على كل حال: (كاليغولا) للجندي (موت اسمه التمرد) لعبد السلام الحبيب، (نكسة أرقام) و(الضفادع الكحلة) لشهرمان و(قراقوش الكبير) و(عنترة في المرايا المكسرة) و(عرس الأطلس) و(فاوست والأميرة الصلعاء) لعبد الكريم برشيد) الخ..
التنافس في البحث عن الأشكال المسرحية:
لقد ادخلت هذه العناصر الشابة تحسينات على المسرح بإضافة عنصر التأليف إلى حلقاته الموجودة وبتعدد وتشكل يهدفان إلى استخدامات رمزية وأسطورية ميتافيزقية وواقعية، غلا أن ذلك لم يبلغ درجة ناضجة بالتمام والكمال، وإنما ظهر من هذا السير الجاد لتلمس الطريق والاعراب العملي عن حسن النية في التوجه والقصد.
لقد تفاعلت عناصر مختلفة مع بعضها البعض واتجهت طاقات احترافية وهاوية إلى التنافس والعطاء. وظهر البحث عن الأشكال المسرحية الجديدة قويا جدا حيث عاود الصديقي محاولاته لاستخراج ما في التراث من مسرحه أو من مواد قابلة للتمسرح و«ربما تتيح لنا تجربة الطيب الصديقي فرصة ثمينة للتأمل، انطلاقا منها. في محاولات المسرحيين العرب الدائبة بحثا عن صيغة عربية للمسرح» (5) لأنه أراد أن يضيف نصوصا عربية أصيلة إلى ما يقدمه مسرحه (المقامات) مثلا. كذلك فإن استمرار البحث عن مسرح احتفالي يروج له برشيد من الملامح التي تكشف عن مصداقية البحث وجديته لكن كل هذا لم يكن ليحيي أملا يحصل معه الاطمئنان النهائي إلى مستقبل المسرح المغربي.
فالمسرح لا يزدهر إلا إذا اشتركت الأحاسيس نحو المشكلات الاجتماعية العامة وارتقت النصوص لتعبر عن هذه الأحاسيس في مناخ ملائم يشع فيه الاطمئنان الحق.
ان البحث عن الأشكال المسرحية عند الهواة والمحترفين معا أخذ يلج في التجريب ولم نلحظ للمسرح التاريخي الذي كان أصل البداية الطيبة في التجربة المسرحية المغربية سنة 1923 أي يتجدد به حضوره ولم تلحظ المسرح الغنائي الآخذ باعتبار الجانب الأدبي وبإدخاله في الإنجاز والممارسة على الخشبة، ولكننا لاحظنا شيئا من التجارب. كانت ضمنها بعض «(الربيرتوارات) التي يتكرر حضورها في المواسم والحفلات الوطنية بالإضافة إلى ما يمكن تسميته تجاوزا ـ بالأوبرات مثل (بناء الوطن) و(القنيطرة) حيث ظهر نوع من التسابق إلى الغنائية الفاقدة لعنصر التسويق والإثارة الإيقاعية الجديدة.
على أن إدخال الحكائيات والخرافيات إلى المسرح لتكون عنصر جذب وتسلية، ولا سيما في ميدان الطفولة، قد حصل لدى الجندي في (سيف ذي يزن) إلا أن كل هذا بقي يدل على حيرة مسرحية ليس لها من مرتكز إبداعي بعيد الاثر ببلادنا. فالأمر يتطلبه أحداث تقاليد مسرحية تراعي فيها التعددية بحسب نوعية المؤثرات والاختيارات. ولقد بذلت جهود مختلفة من لدن الجهات المسؤولة في ميادين التجهيز (مسرح محمد الخامس مثلا) والتقنين، إلا أن ذلك بقي عند حدود لا تستجيب للطموح.
بقي هناك نوع من التأليف المسرحي خارج مدار الحركة الميدانية لأنه اكتسب اعتبارات أدبية وصار وكأنه أدب خالص لا يحد طريقه إلى الخشبة، وهو على قدر من الحيوية والنضج نتيجة مستويات أصحابه ثقافيا وإبداعيا، ولقد تكون قيمته الأدبية ـ وحتى المسرحية ـ سببا في هروب المخرجين والممثلين ومديري المؤسسات والجمعيات المسرحية عن التعامل معه، زيادة على أسباب أخرى.
ان هذا النوع من التأليف المسرحي مزدوج فيه النثري وفيه الشعري، وسنركز الآن على تفصيل القول فيه.


دعوة الحق - التجربة المسرحية في المغرب خلال 22 سنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى