عبدالكريم العامري - ما لم يقله النص - مسرحية

الشخوص

1- الكاتب

2- الأول

3- الثاني



مكتب بسيط. منضدة عليها بعض الأوراق. كرسي يجلس عليه الكاتب. الأول والثاني يقفان خلف الكاتب. أحدهما على اليمين والأخر على اليسار. الكاتب يهم بالكتابة.

الأول: (ينظر الى ما يكتبه الكاتب) ليست بداية جيدة.

الثاني: (يمسك يد الكاتب التي فيها القلم) استمر. لا تتوقف. بدايتك جيدة.

الكاتب: (يفلت يده وينظر الى الأول ثم الثاني)

الأول: البداية التقليدية ليست في صالح النص.

الثاني: هذا سياق ثابت لا يمكن الخروج عنه. (يهمس في اذن الكاتب) قلت لك استمر ولا تتوقف.

الكاتب: (يتوقف عن الكتابة. يمزق الورقة ويلقيها على الأرض)

الثاني: اتبعني وستنجح!

الأول: بل اتبعني وستكون متميزا.

الكاتب: (يهم بالكتابة)

الثاني: (ينظر الى الورقة باسما) هذا جيد. احسنت.

الأول: (ينظر الى الورقة ضجرا) ها قد عدت بما بدأته من قبل.

الكاتب: (ينظر اليهما متحيرا)

الثاني: حين يدخل البطل الغرفة لا تجعله يضيء المكان. دعه يتأمل في الغرفة المظلمة.

الأول: هذا منتهى القسوة.

الثاني: بل منتهى الشاعرية والاحساس.

الأول: ما الذي يفكر فيه البطل في العتمة غير البؤس والشقاء؟

الثاني: سيكون قادرا على رؤية احاسيسه ومشاعره وهذا كاف لأن يكون النص ذا قيمة.

الأول: قيمة النص بالصراع وتنامي الحدث ودون ذلك سيكون النص فارغا.

الثاني: قيمة النص في مدى تفاعل الجمهور. وهذا يتطلب دغدغة مشاعرهم.

الكاتب: (ينظر لهما. يتوقف عن الكتابة. ينهض من مكانه ويتمشّى قليلا بينما يتبعه الأول)

الأول: (هامسا) الامر لا يحتاج الى تفكير. ما قلته لك هو عين الصواب.

الكاتب: (يكتفي بالنظر اليه)

الأول: لا تحدّق بي. حدّق بالورقة وسترى ما يحدث.

الثاني: (من مكانه) خذ قسطا من الراحة وحاول لملمة افكارك.

الأول: الراحة يعني التوقف عن الكتابة. وهذا كفيل في ان يجعل الكاتب بليدا.

الثاني: بل يجعله متجددا.

الكاتب: (ينظر الى الاثنين ثم يعود الى مكانه)

الثاني: (يشجعه) هذا هو البلاء الحسن. استمر لا تتوقف.

الأول: (يعود الى مكانه) ما دمت عجّلت بالكتابة دع البطل يبدأ خطوته الأولى. بطل سدّت بوجهه كل الأبواب يحاول ان يجد منفذا لكنه لم يستطع.

الثاني: وماذا بعد؟

الكاتب: (ينظر الى الثاني ثم الى الأول)

الأول: من هنا ابدأ. هذا يعطيك فرصة لملء اوراقك بالحكاية.

الثاني: العبرة ليست بملء الأوراق. ما فائدة ان تكتب ما لا يثير دهشة الجمهور.

الأول: اكتب دون ان تفكّر بالجمهور. انت من يخلق الشخصيات ويضع مصائرها وما على الجمهور الا ان يتقبلوا افكارك.

الكاتب: (يقوم بالكتابة)

الأول: (ينظر الى الورقة) عظيم. هذا عظيم!

الثاني: (يسحب الورقة من يد الكاتب. يحدّق فيها) ما هذا الهراء! (يقرأ ما كتبه الكاتب) في غرفته المظلمة. حاول ان يسترجع كل اللحظات التي قضاها في السجن المركزي. (يتوقف قليلا) نص بلا لون ولا طعم ولا رائحة!

الكاتب: (ينظر له بذهول)

الأول: (يسحب الورقة من الثاني ويشمّها) الله. الله. هي ذي رائحة النص وطعمه ولونه! (يعيد الورقة الى الكاتب) لقد أبليت بلاءاً رائعا!

الكاتب: (ينظر الى الأول ثم الى الورقة)

الثاني: ألا تكفيك المآسي التي تعيشها لتلاحقك حتى في نصوصك؟ اطو صفحة الاحزان والآلام واكتب نصا كوميديّا. عليك بإضحاك الناس وترفيههم لا ان تزيد من معاناتهم. عليك ان تبتكر طرقا أخرى غير تلك التي قدّمتها. أنا على يقين أنك قادر على ذلك.

الأول: (يضحك) كوميديا! أيّ كوميديا تلك في زمن صار الضحك فيه سبّة. (يقترب من الكاتب ويهمس بإذنه) أتريد ان تكون سفيها...؟ اذن اكتب نصا كوميديّا وسترى كيف يتهمك الجمهور بالسفه.

الكاتب: (ينظر الى الأول ومن ثم الى الثاني)

الثاني: جرّب مرة واحدة واكسر جرّة الروتين الذي انت فيه. لن تخسر شيئا. قد تفتح التجربة أفقاً جديدا لك.

الأول: بدلا من ان تخوض في تجربة لا تعرف منتهاها إكمل ما بدأته. الوقت يمضي وانت تقلّب رأسك يميناً وشمالاً بحثا عن الفكرة. إكمل ما بدأته.

الكاتب: (ينظر اليهما وهو ما زال في حيرته. يمسك الورقة ويمزقها ثم يلقيها على الأرض)

الثاني: (يأخذ الورقة ويضعها على المنضدة امام الكاتب) جرّب. لن تخسر شيئاً. التجربة خير برهان.

الكاتب: (يبدأ بالكتابة)

الثاني: (وهو ينظر الى ما يكتبه الكاتب) جميل. جميل! هذه البداية التي أريدها. (يقوم بقراءة ما كتبه الكاتب) خلف باب منزله كتب جملة قال فيها: وأنت تشرع بالخروج تذكّر. ولا تنسى المفتاح. لكنه خرج مسرعا ولم يأخذ معه المفتاح.

الأول: (الى الثاني وهو يمثل المشهد) ولكنك كتبت تذكّر ولا تنسى المفتاح فكيف نسيته؟

الثاني: (يمثل المشهد) لقد نسيت ان اقرأ ما كتبت! (يضحك)

الكاتب: (ينظر اليهما وهما يمثلان)

الثاني: (وهو ما زال يضحك) بداية رائعة لنصّ كوميدي.

الأول: (الى الكاتب) هل اقتنعت بما يقول؟ بالنسبة لي لم اقتنع لأن النص لم يضحكني. خرج من منزله دون ان يأخذ معه المفتاح فكيف سيدخل؟ هل سيقضي النهار والليل في الشارع؟

الثاني: هذا هو المطلوب بالضبط. ان يثير النص تساؤلات الجمهور.

الأول: أنا غير مقتنع بكل هذا. أنه أمر محبط.

الثاني: (الى الكاتب) إكمل الحكاية وسترى إنك لم تكن محبطاً.

الكاتب: (ينظر اليهما ثم يعود الى الكتابة)

الأول: (ينظر الى ما يكتبه الكاتب) غريب أمرك! أنت تهدر وقتك بالفراغ.

الثاني: (الى الكاتب) كن واثقا فيما تكتب. أنت توشك ان تنهي الصفحة الأولى من النص.

الأول: (مستهزئا) ستمزقها الآن كما مزقت العشرات من الأوراق ما دمت غير مقتنع فيما تكتب.

الكاتب: (يتوقف عن الكتابة. يمسك الورقة ويحاول اتلافها)

الأول: أرأيت؟ ها انت ذا تقدم لتمزيق الورقة!

الثاني: (يمسك يد الكاتب كي لا يمزق الورقة) لا تفعل! كن واثقاً من نفسك. ما كتبته هو الذي تريده.

الأول: والى أين ستصل؟ أغلق الباب وفقد المفتاح والرجل لا يستطيع الدخول الى المنزل الا بكسره او الاستعانة بخبير.

الثاني: حسنا. استعن بخبير. وليكن هذا الخبير خبيثاً، متطفلاً، انتهازياً.

الكاتب: (ينظر اليهما)

الثاني: (يقوم بتمثيل دور صاحب المنزل) عليك بمساعدتي في الدخول لمنزلي قالوا لي أنك شاطر في هذا الأمر. نسيت المفتاح في الداخل ولم أستطع الدخول ثانية.

الأول: (يمثّل دور الخبير) ان صعب الامر عليك فهو سهل عليّ ولكن لا بد ان توافق على الشروط التي وضعتها لمثل هذا العمل.

الثاني: سأعطيك ما يرضيك.

الأول: لا تستعجل. اسمع الشروط فقط. شرطان لا ثالث لهما.

الثاني: حسناً. أنا اصغي لك.

الأول: الشرط الأول هو ان تسجّ نصف المنزل وما فيه بإسمي.

الثاني: لكني لا أستطيع التصرف بالمنزل فهو ارث من ابي ويشاركني فيه اخوتي.

الأول: واخوتك معك؟

الثاني: ليسوا معي. هم يسكنون في مدينة أخرى.

الأول: إذا كان أمر اخوتك يشغلك فاترك الامر لي. قليل من المال يغيّر كل شيء. هناك من يقوم بذلك.

الثاني: نزوّر في الأوراق؟

الأول: بل نغيّر بالأوراق!

الثاني: هذا كل شيء.

الأول: قلت ان هناك شرطين. هل نسيت كما نسيت مفتاحك؟

الثاني: آه حقا لقد نسيت. ما هو شرطك الثاني؟

الأول: ان أكون انا الآمر الناهي في المنزل. أقصد منزلنا!

الثاني: الآمر والناهي؟ بأي شيء؟

الأول: ان لا تخرج ولا تدخل ولا تتصرف بأي شيء في المنزل الا بأمر مني.

الثاني: وما عملي انا اذن؟

الأول: تنفيذ ما آمرك به!

الكاتب: (ينظر لهما وهما يتحاوران)

الثاني: وكيف ستفتح الباب؟

الأول: ليس قبل ان تقول موافق.

الثاني: (بعد تفكير يهز رأسه ايجاباً) مــ..مـ.. موافق! والان قل لي كيف ستفتح الباب؟

الأول: مهما كانت قوة الأبواب فهذه اليد السحرية قادرة على فتحها.

الكاتب: (يضع قلمه على الورقة ويتوقف عن الكتابة)

الثاني: (ما زال في دور صاحب المنزل) ما الذي سيفعله ذلك الخبير؟ ان كان على كسر الباب فأنا أستطيع القيام بذلك. لماذا قبلت بشروطه؟ ما الذي دفعني اليه؟ أي قوة تلك التي شدّتني اليه؟

الكاتب: (وهو ينظر اليهما)

الأول: (ما زال في دور الخبير ضاحكا) الغباء احياناً فرصة رائعة للطامعين. لست طمّاعاً الى هذا الحد لكني اغتنمت الفرصة. المفتاح الذي نساه كان في فتحة الباب دفعة واحدة مع ورقة تحت الباب فتحت لي هذا الكنز! (ضاحكا الى الجمهور) عليكم ان تجرّبوا ذلك مع الاغبياء!

الثاني: الآن وقد فتحت الباب. الى أين ستمضي؟

الأول: (مفكرا) ها. نسيت أنك كثير النسيان. سأبقى في منزلي. أقصد منزلنا. عمل اليوم أنهكني وسأستريح في تلك الغرفة.

الثاني: تلك غرفتي.

الأول: ها. نسيت أنك كثير النسيان. شرطي الثاني هو ان أكون أنا الآمر الناهي وعليك اختيار غرفة أخرى غير غرفتي!

الثاني: لكنها غرفتي. فيها كل اشيائي.

الأول: ارجو ان لا تكون قد نسيت ثانية. الان صارت غرفتي بكل ما تحتويه.

الثاني: الغرفة الأخرى ليست صالحة للعيش. جعلتها قنّا لدجاجاتي!

الأول: لا تهتم. سأبيع الدجاجات وما عليك الا ان تقوم بترتيبها لتكون صالحة لك.

الثاني: ترتيبها يحتاج الى مال.

الأول: بعد بيع الدجاجات سأعطيك المال شرط ان تعيده لي في آخر الشهر.

الثاني: تبيع دجاجاتي وأستدين منك؟

الأول: خير من ان تستدين من غيري. فأنا شريكك في المنزل. هل نسيت؟

الثاني: (غاضبا) أي شريك أنت؟ لم يبق لي شيء في هذا المنزل الا تلك الغرفة الخربة.

الأول: أنت من التجأت اليّ وليس أنا.

الثاني: اعترف انه كان خطأي.

الأول: هل انت نادم؟

الثاني: نادم لأني نسيت المفتاح. لولا ذلك لما وقعت في شراكك.

الأول: حريّ بك ان تشكرني. اخرجتك من مأزق. لولاي لكنت الان في الشارع.

الثاني: النوم في الشارع أفضل من ان أفقد كل شيء.

الأول: إذا أنت أكرمت الكريم...

الثاني: (مقاطعا) وها انت ذا تتملكني.

الأول: المشاركة ليست تملكاً.

الثاني: وليست نهباً لحقوق الآخرين.

الكاتب: (يتوقف عن الكتابة وينهض من مكانه ويمشي قليلا)

الثاني: (يتبعه) لنغيّر مسار الحكاية.

الأول: (يتبعهما) كنت اطلب منك ان تتوقف عن الكتابة لكني الان أطلب منك ان تستمر.

الثاني: لم أكن ارغب في هذا. صاحب المنزل لا يمكن ان ينصاع لمثل ذاك اللص او أي غريب! أي عقل يستوعب ذلك؟ هذا تسفيه لمن يرى المشهد. ان أكملت الحكاية ستكون اضحوكة للآخرين.

الأول: هذا هو النص الكوميدي. ألم تكن تلك رغبتك؟

الثاني: تلك قمّة التراجيديا. أين الكوميديا في النص؟

الأول: ان يضحك المرء على نفسه فتلك قمّة الكوميديا.

الثاني: تلك قمّة السخافة!

الكاتب: (ينظر اليهما، يرفع القلم في وجهيهما ويقوم بكسره ثم يغادر المكان)

الأول والثاني: (ينظران له بذهول)

الأول: اظنّه لن يستمر!

الثاني: من السهل ان تبدأ لكن من الصعب ان تستمرّ.


اظلام

ستار
17-25/5/2019 البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى