محمد شداد الحراق - رقم 3 أم 9؟.. قصة قصيرة

جلس (طاهر) على مقعده الدراسي المعتاد بجانب زميله (حميد) وهما يستعدان لإجراء اختبار مادة الرياضيات. كان معظم التلاميذ في حالة توتر وترقب لا توصف. الوجوه واجمة والقلوب واجفة والعيون جاحظة. الجميع يتساءل في قرارات نفسه عن درجة صعوبة هذا الاختبار اللعين. عن هذا الشبح المقيت الذي يطاردهم. الكل ينتظر لحظة البداية على حوض من جمر، ويصوغ احتمالات عدة وفرضيات كثيرة لنوع الأسئلة التي كتبت على السبورة المغلقة والمحروسة بإحكام.

طاهر- مثل كثير من رفاقه- يكره هذه المادة ويجد صعوبة بالغة في استيعابها، ومع ذلك فهو مطالب باجتياز هذا الاختبار والحصول على نقطة جيدة تشجعه على مواصلة الدراسة، وعلى تحقيق النجاح الذي يعني بالنسبة إليه الكثير. إنها مادة الرياضيات، ذاك البعبع المخيف الذي تقدسه السياسة التعليمية، وتروج له باعتباره مفتاح المستقبل وتعتمده كمقياس للتمييز بين الطلبة. كان طاهر يحس بحمم القهر تصهر أحشاءه، ويشعر بسكين الظلم ينغرس في أعماقه إذا سمع ذلك المعلم المتغطرس يثني على المتفوقين في الرياضيات ويمدحهم على مسمع ومرأى من الجميع، وفي المقابل يعيب على غيرهم ويزدريهم ويكيل لهم كل عبارات القدح والسخرية الجارحة التي تستقر في باطن تجاويف القلب ، وتصيبهم بالإحباط وبفقدان الثقة في النفس. كان غالبا ما يردد عبارته البذيئة الجارحة:

" العبقرية مقرونة بمادة الرياضيات. ولهذا فنحن هنا من أجل تدريس أسيادكم. ندرّس ونتعب من أجل طبقة العباقرة فقط، لأنهم هم المستقبل، أمّا أنتم -معشر الأكباش- فلا خير فيكم ولا أمل مرجو منكم"

صار مقياس التميز في الفصل هو التفوق في هذه المادة، لأن المناهج الدراسية لا تهتم بتنوع الاهتمامات ولا تعترف بتعدد الذكاءات ولا تعير أهمية للمواد الأخرى التي تنبغ فيها بعض المواهب. لم يكن طاهر يعترف بهذه المعايير التمييزية المجانبة للصواب، لأنه يعلم أن الدول والحكومات والمنظمات العالمية الكبرى تسيّرها النخبة المثقفة من أهل الكلمة والفكرة والحكمة والفن، وتستعين في برامجها بخبراء التحليل السياسي والنفسي والتربوي والاجتماعي القادرين على معالجة قضايا الإنسان والبيئة والمجتمع .

يعلم طاهر أن درجته في هذا الاختبار لن تتجاوز درجة زميله حميد الذي يتفوق دائما في مادة الرياضيات بفضل الساعات الإضافية التي ينجزها رفقة أحد الأساتذة.فهو من عائلة ميسورة توفر له المبالغ المادية التي تتطلبها دروس الدعم. أما طاهر فلم يكن باستطاعته فعل ذلك. فالعين بصيرة واليد قصيرة، كما يقال. كان يحس بالقهر والغبن حينما يرى زميله حميد يتقن فك ألغاز الرياضيات، ويتمكن بسهولة من فهم العلاقات والمعادلات وإنجاز أصعب التمارين والواجبات، بينما هو يحاول طويلا ويجهد نفسه كثيرا، ولكنه لا يستطيع استيعاب تلك الطلاسم المعقدة.

في يوم سابق، دعاه حميد إلى مرافقته إلى بيت أستاذه لحضور درس إضافي في الرياضيات بعدما أحس برغبته في إتقان هذه المادة العصيّة عليه.

- اليوم أدعوك لترافقني لحضور درس الدعم في الرياضيات. سيعجبك أسلوب الأستاذ. وسوف تستفيد منه كثيرا.إنه رجل طيب ومحب للتلاميذ.

- ولكن، هل يوافق الأستاذ على حضوري ؟

- لا عليك، سأطلب منه ولن يرفض طلبي.

في البداية ابتهج طاهر لهذا العرض. سلك الطريق رفقة حميد وهو في حالة انشراح. ولكن لما وصل بهما المسير إلى باب البيت رفض طاهر الدخول واعتذر لرفيقه. أحس بالحرج وبعدم الارتياح. لم يكن مستعدا لمثل هذه الوضعية التي تعني الرضا بنظرات الإشفاق والقبول بمنطق الإحسان والصدقة. ألحّ عليه حميد كثيرا وحاول طرد تلك الهواجس السلبية التي تستوطن ذهنه، لكنه أصرّ على الرفض. دخل حميد مسرعا لإخبار الأستاذ. وفي التو خرج هذا الأخير باسما.صافح طاهر ورحب به ودعاه إلى الدخول. كانت الحصة الأولى والأخيرة التي حضرها. فقد أحس خلالها بفقدان التوازن وبعدم الرضا عن النفس. كان يتابع الشرح وهو يحس بالدونية ويمضغ أصابع الحسرة ويلوم حظه العاثر الذي حرمه من كثير مما يتمتع به غيره.

فتحت دفتا السبورة، وظهرت العديد من الطلاسم والأرقام والمعادلات المحيرة والرموز المعقدة. إنها إشارة إلى بداية الاختبار، كانت قلوب البسطاء تخفق بشكل غير طبيعي، في حين كانت قلوب الأذكياء والأغنياء مستقرة غير مبالية. فقد تم التمرن على مثل هذا الاختبار في دروس الدعم الإضافية بشكل كاف، وليس هناك ما يثير فيهم المخاوف. أما طاهر فقد تغير لون وجهه بمجرد أن ألقى نظرة استطلاع على السبورة . تجمدت الدماء في شرايينه، ولم يعد قادرا على قراءة ما تتضمنه تلك الأسئلة الصادمة. أحس بصعوبة في التمييز بين الأرقام نظرا لضعف بصره. ومن دون وعي منه، سأل زميله :

- حميد..هل ذاك الرقم الموجود بالسطر الثالث هو رقم 3 أم 9 ؟ أنا لا أراه بشكل واضح.

كانت هذه الكلمات العفوية كافية ليتهمه أستاذه بالغش. حاول تبرير موقفه لكن الأستاذ الفظ الغليظ القلب أصر على معاقبته. نزع من يده الورقة، ووضع عليها علامة صفر، وكتب بخط عريض: (محاولة غش). انفجر طاهر بالبكاء وانهار كليا. استعطف صديقه حميد الأستاذ بكل عبارات الاستعطاف والتوسل، وشرح له الموقف، وأكد له براءة زميله من تهمة الغش، لكن دون جدوى.

خرج طاهر من الفصل يجر ذيول الخيبة والقهر وقد أدرك أن الحظ يعاكسه والحرمان يطارده ويقتفي أثره. كما أدرك أنه محتاج الآن أكثر من أي وقت آخر إلى وضع نظارات طبية لتصحيح النظر إن هو أراد الاستمرار في متابعة الدراسة. ولكن من أين له أن يحصل على هذه النظارات؟ وما السبيل إلى ذلك؟

في الغد نصحه حميد بزيارة الطبيب بالمستشفى العمومي، وأكد له أن الفحص بالمجان ولا يستغرق سوى بضع دقائق. وبالفعل ذهب طاهر إلى المستشفى وأجرى الفحص، فتأكد له ضرورة حمل النظارات الطبية خلال ما يستقبل من حياته. خرج بائسا مكسور الجناح، مطأطأ الرأس، تتحرك قدماه بصعوبة بالغة وكأنما تثاقل جسمه فلم يعد يقوى على حمله، وفي أعماقه تتحرك مطارق حيرة قاتلة تهد كيانه بالكامل:

- ما العمل الآن؟ وكيف أحصل على النظارات؟ من أين لي ذلك؟؟؟

مرت خمسة أيام وطاهر بدون نظارات، ويجد صعوبة بالغة في متابعة الدروس. كان حميد يراقبه في السرّ ولا يقوى على سؤاله. فهو يعرف وضعه الاجتماعي ويدرك الصعوبات الجمّة التي يعيشها بالبيت منذ وفاة والدته. وفي الأخير قرر القيام بمبادرة إنسانية تجاه زميله تضع حدا لهذه الأزمة القاسية. وفي غفلة من طاهر دعا حميد رفاق الفصل جميعا لاجتماع طارئ، وشرح لهم الوضع، وطلب منهم القيام بما يقتضيه واجب الزمالة:

- أنتم تعلمون الظروف التي يمر منها طاهر.. وهو الآن محتاج إلى النظارات. وهذه هي المناسبة للتأكيد على أخوتكم.

- ماذا تقترح؟. ما العمل؟

- نجمع المبلغ الضروري. كل واحد منا يساهم بما يستطيع، ثم نسلمه إليه.

- لا . لا.. أنا أعرف طاهر جيدا. هو شديد الحساسية.. لن يوافق بالتأكيد.

- صحيح.. سوف يحس بالحرج وقد يرفض تسلّم المال. لذلك أقترح أن نشتري له النظارات. لكن يبقى علينا الحصول على ورقة الفحص الطبي.

- أنا معك. نعم الرأي !

بدهاء بالغ حصل حميد على ورقة الفحص بعدما أوهم طاهر بأن أحد أقربائه نظاراتي، ويمكنه أن يصنع له النظارات المناسبة بدون مقابل. ولم يتأخر طويلا. وبعد يومين كان طاهر لابسا نظراته الطبية. ينظر إلى السبورة فيميز بين رقم 3 ورقم 9، وينظر إلى الحياة فيرى الحب في أجلى صوره مرسوما على وجوه زملائه، ويتطلع إلى المستقبل بعيون حالمة متحفزة. لكن حب الرياضيات لم يجد سبيلا إلى قلبه.

clip_image002.jpg


د. محمد شداد الحراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى