عبد الغفار مكاوي - ” رجل الغابة الوحيد ”.. بين متعة الجسد وجذام الروح

رغم كل ما قرأته عن المدارس والاتجاهات النقدية من حيث تقنياتها البنيوية والجمالية ، فأنا لا زلت أميل
إلى النقد الانطباعي القائم على التحليل الموضوعي
ربما بحكم علاقتي بالإبداع الأدبي الذي لم تسمح لي الظروف إلا بنشر القليل منه ، ولذلك فأتصور أن رأيي ينبع
من الداخل ولا يأتي من الخارج ، ورؤيتي تمتح من دفء النص وينتقل إليها نبضه دون أن أعطف عليه متجاهلا ما قد
يعتوره من نقص أو ترهل أو تناقض أوخلل في البنية ورسم الشخصية، وعبر هذه النافذة نظرت إلى رواية
” رجل الغابة الوحيد” للكاتب الروائي فؤاد قنديل الأخيرة وتحمست لها صفحة بعد أخري لأنها نص أدبي يغوص
بكامله في أغوار النفس البشرية المثقلة بالأحلام والآلام.. تلك النفس التي يدفعها الطموح وتهددها المحن.
تناوشها الغواية في مراحل العمر المختلفة فتستمرئ المتعة لكنها رغم ذلك في حال دائمة من الحيرة
تختلط عليها ألوان الاختيار وتتوجس من عواقبه، وقد تدهمها الأقدار بما لا تتوقع.
رجل الغابة الوحيد في هذه الرواية هو الدكتور هشام ذكري طبيب النفس الشاب الوسيم الرشيق الباسم ، المتمتع بالذكاء
والدهاء والطموح حلو الحديث عذب العبارة .. رغم طفولته التعسة حيث حرم مبكرا من حنان الأم وعاش في كنف
أب عنيف و سكير،لا يفتأ يضربه ويسبه بأي شيء وكذلك يفعل مع أمه فيلجأ الطفل دائما للاختباء حتى تكرس في روعه
حب العزلة بعد إصابته بالتوحد . نقرأ في الرواية :
“يبدو أبوه الضخم في الصورة وهو يهجم كالوحش على أمه يكيل لها الصفعات واللكمات والرذاذ القذر يتطاير من فمه.
– أنا حر يا بنت الكلب .. أشرب كما أريد .. لا أحد على الأرض يمنعني ..
هشام الصغير يركض ثم ينطرح أرضا ويزحف باحثا عن ركن يخفيه من بطش المارد الهائج . . تدخل أمه حجرة
نومها وتغلقها فيما يجلس أبوه على الكنبة ، يواصل تجرعه من زجاجة ثلاثية الأضلاع غريبة الشكل دون أن
يتوقف عن قذف أمه وأهلها بالسباب القبيح.. ولما انتهت الزجاجة طوّحها بقدر استطاعته فطارت وارتطمت
بالمرآة وتحطمتا معا ثم انهار وتهاوى على الأرض .. وقبل أن يغمض عينيه يلمح ولده هشام مكوما تحت مائدة
الطعام المنهكة التي تهزها أنفاس الثور الهائج كما تداعب النسمات الستائر الكريتون الخشنة .هشام يرتعد ويترقب
ويتضاءل كوسادة صغيرة مبتلة”
انتقل هشام إلى عمته الحنون وزوجها الطيب وبناته الثلاث اللطيفات ليستعيد مع الأسرة الجديدة بعض التوازن
فيقبل على دراسته بحماسة بوصفها السبيل الوحيد لبلوغ مستوى نفسي أفضل .. أعانه خياله والقصص الكثيرة
التي قرأها وثقافته الغزيرة التى حصلها إبان حالة الإنطواءعلى حالة شعورية متماسكة نسبيا مكنته من أن يحقق تفوقا
دراسيا تصاعد مع المرحلة الجامعية واختياره التخصص في علم النفس ، وسرعان ما كشف عن قدرته على تحليل
المشكلات النفسية ومهارته في تفكيكها ببساطة مدهشة ، واكتشاف ابتكارات لخلخلة العقد المتراكبة والتقاط مسارب
للخروج من قبضتها .. كل ذلك أدي إلى حيازته مكانة علمية انبهر بها الأساتذة وجمهور المرضي من بعد ، ومن ثم
أصبح معروفا علميا واجتماعيا وإعلاميا خاصة عندما أبانت كتاباته وتصريحاته على مدي سنوات عن إيمانه العميق
بالمرأة بوصفها مخلوقا ذا مواهب وملكات ،وظل يؤكد على أنها تتمتع بجسارة وخيال وقدرة على التأثير والتغيير
بفضل عقل راجح قابل للنألق إذا حصلت قدرا كبيرا من التعليم ، فهي ثروة إذا استطاع الرجل فهمها واستثمار طاقاتها
في تحقيق أهداف لم يكن ليحققها إذا غلبته أنانيته وغروره فاعتقد أنه الأقوي والأذكي والأقدر على القيادة.
هشام ذكري يمثل بشخصيته الإنسانية في هذه الرواية كوكبا تدور في فلكه النجوم ، فقد عشقته وجدان الشاعرة وإيزيس
الصحفية ومها الممثلة وجواهر الأميرة العربية وكاتي المترجمة وباتي الكونغولية والعشرات من النساء من بينهن
اليابانية والاسترالية والإسبانية والهولندية والأفريقية ، وقد سمت مكانته ونال الشهرة المدوية بعد تأسيسه
لجمعية “المرأة الحرة ” المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة في مصر ولم تمر سنوات قلائل حتى حتى كان لها فروع
في معظم أنحاء الوطن العربي. وقدكانت زياراته العديدة لأفريقيا سببا في أن يحب القارة والغابة والشعب ويعتقد أنها تشبه
الأنثي والأنثي هي أفريقيا الملتهبة والأسطورة والجاذبية عاشقة الغناء والرقص والبدائية أحيانا.على أن الأمر لم يكن مجدا
كله وإنما كان في المقابل دربا حافلا بالأشواك والأزمات ، وكثير من المحن التي ابتلي بها ككل المحن كانت ذات
وجه سلبي يجر المتاعب ويزلزل المسيرة ،كما كان لها وجه إيجابي غائر ومستورلا يدرك إلا بالتأمل الطويل.
من ذلك أن جماعة إسلامية زجت عليه من اتهمته باغتصابها، وأحكمت الجماعة حول رقبته المكيدة وتبرعت
الأميرة بمليون جنيه لباقة من المحامين من أجل براءته، وأجريت له محاكمة كان لها دوي اجتذب لجلساتها عشرات
الألوف .. بذلت الشاعرة جهودا استثنائية لاستدراج المدعية التي تعطلت المحاكمة بسبب هروبها حتى عثرت
عليهابمساعدة كوكبة كبيرة من النسوة المتعاطفات مع رجل الغابة الوحيد ، ورأت الشاعرة وجدان أن تعرض
على المدعية خمسين ألف جنيه إن اعترفت بالحقيقة ،وبعد محاولات سقيمة للتهرب والمماطلة اعترفت
وحكمت المحكمة بالبراءة. الغريب أن وجدان كانت قد عزمت قبل القضية على قتل هشام لأنه ضربها
بعنف فأسقط جنينها، لأنه رأي صورها مع شاعر لبناني في مهرجان شاركت فيه ببيروت وقدأنكرت كل ما نشر.
اعتاد أن يفضل مؤتمرا في دولة أفريقية على مؤتمر في باريس أومدريد أو نيويورك ،وفي آخر مرة كان
في الكونغو، حيث قضي بضعة أيام جميلة على المستوي العلمي والشعبي والتقط الصور وأحاطته الفتيات من دول
عديدة ، لكن التي هامت به حد الجنون كانت مرافقته الكونغولية ” باتي” التي أنقذته في آخرلحظة من انفجار دمر
الفندق بالكامل نفذته مجموعة من معارضي النظام ، وبعد عودته اكتشف إصابته بالجذام، فاسودت الدنيا في عينيه
وهو يلحظ في كل يوم تزايد البقع البنية التي تنتشر في جسمه ،وبدأت تظهر عليه كل الأعراض التي يسببها
المرض العنيد حسب ما أوضح الأطباء، وانتقلت الحالة التعسة إلى تركيزه ونفسيته ، فتأثرت العيادة والمواعيد
ورفض المؤتمرات بل ولم يحفل بالرد على الأصدقاء وانطوي على نفسه لا يغادر البيت، وكان طبيعيا
أن يتوقف عن كل علاقة حتى لا يضر أحدا بالعدوي، وتأهب للنهاية وهو في قمة الحزن والأسي.. لقد آن
للنهر أن يغير مساره إذا التقي جبلا.وهاهو هشام يعود إلى ما كان عليه في طفولته حيث حالة التوحد
والعزلة الإجبارية. عاش الأيام المتبقية من عمره يتابع المرض ويتأمل بروح أصابها الجذام كما أصاب
الجسد رحلة حياته ولغة الرب التي غفل عن محاولة فهمها.
رسم الشخصيات في اعتقادي أهم من موضوع الرواية وأحداثها ، والرواية كفن أدبي رفيع ومهيمن
بشكل لافت تقوم في الأساس على الشخصية ، ومن النادر أن تكون هناك رواية مميزة وذات مكانة
في التاريخ الأدبي دون أن تحملها على ظهرها شخصية قوية ومؤثرة ،وهي قدرة تمتع بها الكاتب
الروائي الكبير فؤاد قنديل في معظم أعماله منذ روايته الأولي ” أشجان ” مرورا بروايته “الناب الأزرق”
و”بذور الغواية” و “كسبان حتة ” و “حكمة العائلة المجنونة ” و “روح محبات” و” قبلة الحياة ” وغيرها ، ولأن الرواية
تقوم على شخصيات تتحرك في وسط أو داخل بنية فقد قدم لنا الكاتب في هذه الرواية شخصيات حية ونابضة
، متسقة في كل سلوكها تقريبا مع ما زودها به من سمات ، فالأميرة العربية يتدفق لسانها وتكشف
مواقفها عن كرم وغرور، والخادمة مخلصة في عشقها الصامت ،ووجدان الشاعرة تتميز
بالثورة والحب الجارف والاعتزازبالنفس وكذلك الأب وكاتي الأمريكية البسيطة التي تحقق أهدافها دون
صراع، وكذلك إيزيس التي تلتقط متعتها خطفا وفي غيبة الجميع ، أما هشام ذكري فكان المحور ، أو المايسترو
الذي يحرك الأحداث بإرادته أو دونها ويكتوي في الوقت ذاته بالنارالتي تنجم عما يقترف،تساعده وسامته ولغته
وعبقريته في فهم الأغوار بل في توقع المواقف وقراءة الأفكار.. شخصية مثيرة للدهشة ،كما كانت
في البدايةوالنهاية مثيرة للإشفاق، فقدبدأ حياته متوحدا بطفولة معذبة ثم مجتاحا بعنفوان الشباب، إلى أن انتهي
متوحدا بالمرض ليقبع في منفي العزلة والنهاية المرعبة للجميع، ويتهدد البناء الضخم الذي أقامه
حتى ليوشك على التداعي .
لم يكتب قنديل رواية يحكيها الراوي العليم ، وكان دائما يترك للشخصيات رواية ما يعيشونه وما يحلمون به
سواء في روايته المبكرة ” أشجان ” 1969التي تعتمد على الأصوات المتباينة لتحكي كل شخصية الحدث من
وجهة نظرها ومطبوعا بمشاعرها وعقدها ،وكانت ثالث رواية مصرية تنحو هذا المنحي بعد
“الرجل الذي فقد ظله “لفتحي غانم و “ميرامار” للكبيرمحفوظ، وتنبه الكاتب منذ بداياته وحتى آخر
أعماله ألا يكون موجودا في رواياته، وآثر أن يتخلي عن مهمة السرد لأبطال رواياته حتى
“عشق الأخرس” التي قرر أن يرويها البطل بالكامل عن طريق المونولوج الداخلي وربما كانت واحدة من الروايات
القليلة في الأدب العربي والعالمي التي لم تستعن بأية طريقة فنية غير المونولوج وحده من البداية حتى النهاية.
أما لغة ” رجل الغابة الوحيد” فهي أبرز عناصر العمل الفني لدي الكاتب إبداعا وإمتاعا.. تلك اللغة الشعرية
التي تميز به الكاتب وغدت من أساليبه الأصيلة في السرد الروائي والقصصي حتى عرفت به وعرف بها .
نقرأ في الرواية ص237

” في هذه الأيام المنطفئة والنهارات العجفاء وأمامي الشباك الحزين ومن حولي العتبات والجدران الصماء الباردة ، أتأهب في رضا لاستقبال النهاية ، وقد مات في قلبي الزمن ، وتلفتت الساعات حولي حائرة ، ثم مرقت كهرة تطارد الفئران .. ها أنا أقبع وحيدا ومنقوعا في برميل الجذام ..لا أرى غير نزيف الأيام التي دهستها الأقدار . أسعد الله صباحك.. هذه كلمات ممزقة من صديقك المحب ولكنه محطم وعاجز .. مبقع جسده بطفح الجذام ومبقعة روحه بطفح اليأس . . ليتك تدعين إلاهك الطيب كي يتكرم عليه بالشفاء ، وليتك تسامحيه عما اقترف .. لا تزال في قلبي الذي يشبه تفاحة عطباء بقايا ذكريات جميلة تمده ببعض أنفاس الحياة بعد أن غاب عنه ندى الأحباب .. ليتك تدعين إلاهك الرحيم كي يمسح بيده على جسده الأبرص مثلما فعل عيسى ، أم تراه مضى إلى غير رجعة زمن المعجزات . سلمت وسلم كل من ينتمي إليك . ليكن ثمرة حبنا الخالد نصب عينيك و ليتربع على عرش قلبك .. المحب لكل ما يمت لك بصلة ..هشام .”
والحوار في الرواية ليست فيه كلمة مجانية ، وإنما هو جزء من البناء وله دور لا غني عنه في رسم الشخصي
ويضيف مع كل جملة حزمة معرفية تفيد في استكمال العمارة الفنية والإنسانية للعمل ، ويحمد للنص تلك الاقتباسات الشعرية
والتناص التراثي والديني فهي أيضا من الإضاءات المعرفية المهمة التي تسهم في تعميق الإحساس بالمكان والمشاعر والأزمات.
أما البناء فينهض في ظني أساسا على اختيار الكاتب لضمير الراوي أوالرواة ، وقد اختار الروائي ضمير المتكلم وإن تعدد المتكلمون ،
وشاركت الشخصيات الرئيسية في الحكى والرواية حتى لنستطيع القول إن كل من حكى حمل جزءا من البناء وتعاونت الأبنية
الصغيرة المتكاملة في تشكيل البنية الكلية للنص .
بعد هذه السطور التي حاولت الاقتراب من عمل أدبي بديع لا أجد بدا من الاعتراف بأن صاحبه الروائي المتفرد
أحدمظاليم الأدب العربي فقدعاني الكثير من الإهمال، على الرغم من أن روايته وقصصه ذات مستوي فني
مميزوهو كما قال عنه بعض النقاد روائي من نوع خاص وأعماله جميعها تشتبك بعمق مع الواقع السياسي والاجتماعي
حتى لتعد كتاباته بحق شهادة صادقة ودقيقة على العصرصاغها في تشكيل جمالي ممتع يمتلك كل أسباب الإلهام وفتح
الآفاق لرؤى إنسانية جديدة تنطلق من روح عذبة وعاشقة للحياة على أمل أن تتحول إلى الأفضل والأجمل.



* عن موقع الكاتب العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى