وائل أحمد خليل الكردي - أصل واستثناء..

اذكر كيف كان الأستاذ الدكتور (عفيفي عجلان) رحمه الله، يلقننا درس الشريعة الاسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في اخريات الثمانينات، على نحو ما كان يلقنها لطلاب القانون الفرنسيين في السوربون بباريس وأمام الجمعية الفلسفية الفرنسية.. في البدء كان الأمر غريباً علينا وشاقاً.. كان يقول بأن التشريع الاسلامي مر بمخاض كمخاض الميلاد للإنسان مذ تكّون جنيناً في بطن أمه، ومضى في مراحل حتى أتت اللحظة التي خرج فيها إلى العالم بشكله النهائي، وكان هذا الشكل النهائي هو بلوغ الوعي الإنساني الحصري الدرجة اللازمة لتقبل واستيعاب نصوص واحكام ومقاصد الشريعة الإسلامية.. لقد استعار (عفيفي عجلان) منهج المراحل الثلاث في تطور (الوعي – المجتمع) لدى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (اوجست كونت) من الحالة الدينية إلى الحالة الميتافيزيائية وانتهاءً بالحالة الوضعية والتي ستستمر إلى الأبد، ولم تكن استعارته تبنياً للفكر الوضعي، وإنما كانت رؤية تفسيرية لكيف تتبلور منظومة ما على مراحل حتى تبلغ درجة النضج وتنزل إلى الواقع لتعمل فيه على نحو مطلق، أي (من الآن فصاعداً).. علمنا فيما بعد أن (عفيفي عجلان) كان يدرسنا فلسفة الشريعة الإسلامية حتى نفهم على اساس سليم كيف هي اصول التشريع واستثناءاته ..
إن القانون الجنائي هو استثناء في الشريعة وليس أصل ، لان المجتمع وفكرة الاجتماع في اصلها تقوم على المصالح الإيجابية المشتركة والتوافق العام.. ولذلك فالشريعة الاسلامية تبني على الأصل ابتداءً في تنظيم التوافق والمصالح، وتمنح جانباً لما هو استثناء (قانون العقوبات والحدود)، وللأسف الكثيرون ممن كانوا قائمين على أمر الدعوة السياسية الاسلامية عملوا على تهيئة أدمغة الجماهير لتتجه تلقائيا نحو الشريعة بأنها قانون العقوبات في الأصل .. فالنفترض أن مجتمعا خلى من الجريمة فهل يعني ذلك أن الشريعة لا وجود لها الا أن تقع جريمة لتقوم الحدود في مواجهتها؟..
الشريعة في حقيقتها اذن هي (حرية، سلام وعدالة) فإذا انتفت هذه القيم ظهر الاستثناء في المجتمع وهو الجريمة التي تستوجب قانون العقوبات والحدود.. وبالتالي ، فكل من أسقط هذه القيم فقد أسقط الأصل في الشريعة ولم تعد هناك فائدة بعد ذلك حتى ولو طبق قانون الحدود بحذافيره.. وفي المقابل، أي نظام اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي متفق ومتواضع عليه بين الناس يحقق هذه القيم العليا التي رسمتها الشريعة للإنسانية فهو من الإسلام.
ولذلك فعند حديثنا عن جانب العقوبات الجنائية الحدية بكونها الأساس البارز في الشريعة الإسلامية، فإننا كثيراً ما ننسى ما يتساوى مع الحدود في جوهر هذه الشريعة الإسلامية على الطرف الآخر وهو مسقطات العقوبة الحدية او موانعها.. ولأن الغاية من الشريعة كقواعد قانونية هي تأمين المجتمع وحمايته دون فصل في هذه الحماية بين جانب معنوي اخلاقي وجانب مادي، على اعتبار أن هذا هو ما يحقق توافر الثقة بشدة بين الشركاء في المجتمع أياً كانوا هم وأياً كانت أحوالهم.. فقد جُعل ارتكاب الإثم غير المتعدي بالضرر داخل الحرز آذناً بوجوب منع إقامة الحد عليه. ففي جريمة الزنا مثلاً، توجب الحد عليها إذا لم ترتكب داخل الحرز المغلق ووقعت بأربعة شهود عدول، وهذا الشرط الموجب للعقوبة الحدية انما يقوم على تحقيق وقوع فعل المجاهرة بالزنا والإعلان عنها، أحرى من قيامه على فعل الزنا نفسه. ودليل ذلك أن شهادة الثلاثة فقط بواقعة الزنا دون الاكتمال برابع انما تعطي الحق بمقاضاة هؤلاء الثلاثة تحت تهمة التشهير وإشانة السمعة.. وهكذا، فالأمة معافاة ما لم يجاهر فيها المجاهرون بسوءاتهم.. ولأن المجاهرة بالمعصية تنافي التوبة عن الذنب للإنسان أمام ربه، ناهيك عن خدش المجتمع في أخلاقه وقيمه ما من شأنه تضييع الثقة بين الناس. ولذلك كانت فضيلة (الستر) أي ستر الإنسان لعييه على نفسه دون مجاهرة به هي من أكبر فضائل التشريع الإسلامي، وهذا بخلاف (التستر) الذي يعني جريمة إخفاء مجرم أو إخفاء أدلة إدانة متعلقة به.. وربما من أقوى الأدلة على ما سلف هو ما ورد عن موقف سيدنا (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وهو إمام العدل والحق، عندما " كان يعس بالمدينة من الليل ، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى ، فتسور عليه ، فوجد عنده امرأة ، وعنده خمرا ، فقال : يا عدو الله ، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته ؟ فقال : وأنت يا أمير المؤمنين ، لا تعجل علي ، إن أكن عصيت الله واحدة ، فقد عصيت الله في ثلاث ، قال تعالى : ولا تجسسوا ، وقد تجسست ، وقال الله عز وجل : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، وقد تسورت علي ، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن ، وقال الله عز وجل : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، فقد دخلت بغير سلام قال عمر رضي الله عنه : فهل عندك من خير إن عفوت عنك ؟ قال : نعم ، والله يا أمير المؤمنين ، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا ، قال : فعفا عنه ، وخرج وتركه ". وبغض النظر عن سند الرواية فالشاهد هو المغذى..
وايضاً إذا اتجهنا نحو القصاص ،وجدنا أن مغذاه ليس فقط المساواة في العقوبة نفس بنفس أو سن بسن أو عين بعين بحسب ظاهر النصوص، إلا أن المقصد العميق منه ليس مجرد العقوبة بل هو إحياء وحياة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) فهو حياة للجاني كي يطهر النفس الآثمة، وحياة للمجني عليه برد الحق إليه، وحياة للمجتمع بعيش آمن، وحياة لأولياء الدم في فيما هو أعظم قيمة من الانتقام وهو الحق في العفو.. هكذا تكون ترقية النفس الإنسانية نحو التسامي بفعل المسامحة عند الغضب الشديد وبفعل العفو عند القدرة على إنفاذ الحق في العقوبة، وفيه مثل أعلى في التجرد الانساني العام وتحقيقاً لقيمة السلام العادل، سلام النفس والذات، وسلام الاخرين.. فالعفو في الشريعة الإسلامية حق كما أن القصاص حق سواء بسواء (والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)..
لقد جعل الدين كل فعل مرهون بالنية عليه والقصد إليه، وقد تعلمنا أن من تمام جرم ما لإنسان هو إنعقاد النية واتجاه الإرادة نحو ارتكابه، فإذا لم يتوفر هذا عد ارتكاب الجريمة هنا في الحكم قائم على الخطأ غالباً وليس القصد.. ولما كانت النوايا هي من أصعب الأمور اثباتاً دون اعتراف مباشر فقدت اعتبرت روح الشريعة أن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، وهذا فيه إلماح إلى مراعاة الفرق بين ثوابت التشريع ومتغيراته..
لقد كانت الشريعة الإسلامية رادعة في أحكامها على الجناة بقدر حاجة المجتمع الانساني لهذا الردع، وليس بمقصد العذاب وحده وإنما بالأولى بمقصد تزكية المجتمع في الدنيا، وحتى لا يدعي أخ على أخيه الإنسان بالشق عن صدره كاشفاً عما في داخله إلا أن يدل عليه فعله الواضح أو قوله الواضح، ثم عند الله تجتمع الخصوم .. ويظل البيان الأعظم في أصل الشريعة الإسلامية أنها حرية وسلام وعدالة.



د. وائل أحمد خليل الكردي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى