جليلة مفتوح - مدينة فاس.. العاصمة العلمية والروحية للمملكة المغربية

ⴼⴰⵙ فاس باللغة الأمازيغية:
من أهم المدن التاريخية العريقة في المغرب ،وأول عاصمة سياسية في التاريخ الإسلامي للبلاد ،وأهم مدن المغرب الأقصى.وتعد مدينتها القديمة المدينة المسورة ،أو ما يعرف بفاس البالي الجزء الأقدم تاريخيا.كما أنها من مدن القرون الوسطى ،التي ما زالت مأهولة إلى يومنا هذا ،حيث يقطن داخلها أكثر من مائة ألف شخص ،وهي تمتاز بالأزقة الملتوية والأسواق الضيقة ،مما جعل وسائل النقل التقليدية فوق ظهور الحمير والبغال رائجة. وتتضمن البلدة القديمة 11 ألف مبنى تاريخي ،بما في ذلك مسجد باب الجيسة ،وجامعة القرويين أقدم جامعة أنشئت في تاريخ العالم.

فاس أكبر منطقة حضرية خالية من السيارات في العالم

أما المدينة الجديدة فتكونت سنة 1276 وتوسعت كثيرا إبان الحماية الفرنسية ،قبل أن
تصبح أكثر فخامة على مراحل منذ استقلال البلاد ،إلى أن أعطت روعتها اليوم بنيانا وجمالا وحداثة ،بتوالي الإصلاحات والتعمير والاهتمام بالواجهة السياحية.

كما يعتبر مطارها من أجمل المطارات زخرفة بديعة ،كعنوان المدينة العريقة بامتياز ،الذي شيد على النمط الاصيل تحت رعاية الملك محمد السادس ،الذي جددت في عهده الجامعات والكليات على اختلاف مشاربها وتخصصاتها.ولازال قيد التنفيذ العديد من المشاريع التنموية ،التي ستوصل المدينة ملكا وطنيا للجميع.

فهي المدينة التي بناها إدريس بن ادريس بن عبد الله بن الحسن المثنى سنة 172هـ ،ابن أول مؤسسي دولة الأدارسة الذي لجأ إلى المغرب فرارا من موقعة فخ أشهر مذابح العباسين لآل البيت سنة 193 ه ،بعد أن شب على يد أمه الأميرة كنزة ابنة زعيم أوربة الأمازيغية ،الذين أمنوه وسلموه الإمامة ،وتحت رعاية راشد الأوربي رفيق والده الإمام ومخلصه ،كما ذكرت في سيرة مدينة مكناس.لكن فاس كانت في القديم عبارة عن بلدتين ،لكل منهما سور وأبواب تختص بالعبور نحوهما ،ونهر سبو الكبير فاصل بينهما.وكانت كل بلدة تقوم على عدوة (مرتفع ) ،فكانت إحدى العدوتين تسمى عدوة القرويين لنزول العرب الوافدين من القيروان إليها محاطة بالأسوار ،تخترقها عدة أبواب ولها مسجد جامع.وسميت الأخرى عدوة الأندلسيين لنزول الأمازيغيين والعرب وغيرهم من الأجناس الوافدين من الأندلس إليها.كما يوجد فيها عيون عديدة إضافة إلى نهر سبو ،مما جعل فاس ذات موقعٍ إستراتيجيٍ ساهم في صمودها عبر تاريخها الحافل بالأحداث ،وتحت كل أنواع الحصار التي توالت عليها.فكانت المدينة بهذا الشكل والمعنى عاصمة لعدة دول مختلفة الأفكار ،والتوجهات والملل داخل المغرب.

لكنها عرفت بداية عصرها الذهبي في عهد الدولة المرينية ،لتركيزهم على تنمية المغرب بدل الأندلس ،خاصة أيام حكم أبي الربيع وأبي سعيد عثمان.فأصبحت فاس بالتالي على عهدهم مركزا علميا مرموقا ،وصل إشعاعه التنويري إلى مختلف الآفاق.

ويمكن القول أنها ظلت عاصمة زاهرة دينيا وتاريخيا ،منذ تأسس جامع القرويين بين أرجائها ،والذي أصبح مركزا للعلم توافد إليه الناس ،من جميع أنحاء العالم الإسلامي وغيرهم ،كالعديد من العلماء المسيحيين واليهود عبر القرون المتتالية.فأخذ مكانته نفوذا وأهمية في شمال إفريقيا قاطبة ،ولم ينافسه إلا جامع الأزهر الذي جاء بعده.

تعتبر فاس أقدم مدينة في المغرب ،وكأنها نافذة مشرعة على التاريخ في أوجه كثيرة.فقال المهندس المعماري العراقي علاء سعدي ،الذي قام بتجديد منزل تقليدي يعود إلى القرن الخامس عشر في فاس ،أن المدينة تعتبر بمثابة مزيج من تفاصيل متنوعة تنتمي إلى فترات مختلفة تاريخياً.موضحاً أن أعمال الجص القديمة جداً في هذا المكان ،يمكن رؤيتها أيضاَ في حضارة مصر وبابل.

وتعتبر دباغة الجلود بالأسلوب التقليدي ،من بين أبرز الملامح التي طبعت تاريخ مدينة فاس ،بما في ذلك مدبغة "شوارة" ،حيث يستخدم الدباغون الطرق التقليدية التي كانت تستخدم منذ نشأة المدينة.علماً أن الإحصاء الأخير حول عدد الحرفيين التقليديين في مدينة فاس ،بلغ 40 ألفاً.وإليهم يعود الفضل في المحافظة على تاريخ المدينة التراثي بامتياز.فضلاً عن آلاف الحرفيين الذين كرسوا حياتهم ،لاستمرارية وازدهار الحرف التقليدية ،التي وهبت المدينة هالتها المستمدة من أحشاء العصور المتوالية.

لكن يظل مسجد القرويين من أشهر المساجد بالمغرب على الإطلاق ،وواحدا من أعرق وأقدم المؤسسات العلمية.لأنه وسع سنة 857 م بعد تأسيس المدينة بمدة (51) عاما على يد السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ / 859 م ،التي قيل أنها نزحت من القيروان تونس رفقة أهلها زمن إدريس الثاني ،وتزوجت في مدينة فاس متبرعة ببعض أموالها لتوسعة مسجد القرويين ،الذي لاحظت حينها أنه ضاق على المصلين.

لكن لأن مساحته ظلت صغيرة جدا رغم التوسعة الأولى ،لتضخم أعداد الوافدين على المدينة ،فقد هدم بعدها ليقوم بتشييده من جديد علي بن يوسف المرابطي ،وزاد في مساحته زيادة كبيرة.فقام بزخرفته صناع محليون وأندلسيون ،إلى أن توهج بريقا في العهد الحالي.

وما زال مسجد القرويين يحتفظ بمنبره المصنوع ،من الخشب المحفور والمطعم والثريات الفخمة ،وخزانة الجامع وحجرة للوضوء.كما بقي الجامع والجامعة العلمية الملحقة ،مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني فوق الألف سنة.وبعد أن وسعه أبو يوسف يعقوب المريني صار الجامع يستوعب (22) ألف مصلي.كما صار يدخل إليه من (17) بابا منها بابان لدخول النساء.
وكان هذا الجامع الفريد في بنائه وهندسته أثناء عصوره الأولى بـ (509) ،مصباحا قائما فوق قواعد قد يزيد وزنها على (700) كيلو جراما.وتعتبر جامعة القرويين في العصر الحديث ثاني أقدم جامعة ثقافية في العالم ،بعد جامع الزيتونة في تونس (116 هـ736 م) ،حيث تخرج منها بعض علماء الغرب أيضا.ففيها تعلم جربرت دي لوفرينه الثاني ،الذي أصبح فيما بعد سلفستر الثاني ،وفيها تعلم (الصفر العربي) في علم الحساب وهو الذي نشر ذلك في أوروبا.

درس في جامع القرويين أيضا ابن الشيخ الفيلسوف ،الرئيس موسى بن ميمون القرطبي ،الذي كان من أعظم الأطباء في عصره والذي غادر الأندلس إلى المشرق ،وعين طبيبا لصلاح الدين الأيوبي قبل أن يعين مدرسا في القاهرة.وفضلا عن هذا الجامع فإن فاس كانت تضم (785) مسجدا جميعها أو معظمها كانت عبارة عن مدارس ،بالضبط كمساجد البصرة والكوفة ،التي كانت تدرس فيها علوم الدين وعلوم اللغة والتاريخ وغير ذلك من العلوم.ولعل من أكبر مدارس فاس مدرسة السلطان أبو عنان المريني ،التي أسسها عام 756 هـ / 1355 م ،وكان قد ألحق بمبناها مسجدا للصلاة ،يتحلى بمنارة "مئذنة" لا مثيل لها في الجمال والأناقة.

ومن أجمل الآثار الباقية جامع الأندلسيين ،بني سنة 859-860م من طرف مريم أخت فاطمة الفهرية.لكن تصميمه الحالي يعود في مجمله إلى فترة حكم الناصر الموحدي.وقد عرف إضافة نافورة ماء وخزانة في العهد المريني.لكن خلال العهد العلوي ،قام السلطان المولى إسماعيل بعدة إصلاحات فيه.وهو من التحف الخالدة حيث تميز بسقف المصلى ،وأثر فني خالد بجمال نقوشه وفسيفساء نوافذه الزجاجية التي تجتمع في رسومها ألوان شتى ،كما تميزه نجفته النحاسية المدلاة من السقف وجمال تخريمها.وقد أعيد بناؤه في عهد محمد الناصر وشيده تشييدا عظيما ،كما يوجد أيضا العديد من المساجد مثل مسجد الحمراء ،ومسجد الرصيف وغيرها من المساجد المنتشرة في المدينة.

وتميزت فاس بمدارسها التي بنيت حول جامع القرويين ،وانتشرت في أنحاء المدينة خصوصا في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي على يد العديد من الأمراء.وقد زينت هذه المدارس بذوق فني رفيع ومتنوع ،مشكلة واحدة من أروع تشكيلات الزخرفة في مدينة فاس. ويأتي في مقدمة هذه المدارس مدرسة فاس ،والمدرسة المصباحية التي أسسها أبو الحسن سنة 743 هـ / 1343 م.

أما أقدم مدارس فاس فهي مدرسة الصفارين التي أمر ببنائها أبو يوسف المريني عام 678 هـ / 1280 م ،وزودها بمكتبة ثرية نقلت فيما بعد إلى جامعة مسجد القرويين ،لأنها بالإضافة إلى كونها تعتبر من أشهر مدارس فاس والمغرب ،ودورها كمؤسسة لتعليم وإقامة الطلبة ،كانت تقام فيها صلاة الجمعة.وهي تتوفر على صومعة جميلة البناء والزخرفة إضافة إلى ساعة مائية (مكانة) .

كما أنها المدرسة الوحيدة المزودة بمنبر ومئذنة ،خاصة أن السلطانان المرينيان اهتما آنذاك بتثقيف الناشئة والأساتذة ،ورعيا شئون الناس رعاية بالغة.

وتعتبر مدرسة العطارين أصغر مدرسة في زمانها ،وهي تقع شمال جامع القرويين ،لكنها كانت من حيث الهندسة المعمارية من أجملها وأبهاها ،بزخارفها البديعة التي تجعل منها تحفة عمرانية نادرة عند طرف سوق العطارين.ومؤسسها كان هو السلطان المريني ابو سعيد عثمان ما بين12 ،الذي قيل انه اشرف شخصيا على تأسيسها في البداية.

وتتألف هذه المدرسة من صحن مكشوف فيه حوض ماء ،وقاعة للصلاة مربعة وصالات لاستقبال الطلاب والأساتذة.كما تختصر زخرفة الجدران التي تحف بالصحن المكشوف ،جميع التقنيات التي اعتمدها فنانو
المغرب في تزيين صروحهم ،فأظهروا براعة كبيرة في التعاطي مع المواد المختلفة ،سواء من الخشب والحجر والرخام والفسيفساء ،أو الخزفية المعروفة بالزليج والجص.

وكانت هذه المدارس تدرس فيها العلوم الابتدائية ،بدءا من القرآن والكتابة والقراءة ،إلى مبادئ الحساب وغيرها ليلتحقوا بعدها بالجامعة.وكانت مدة الدراسة في جامعة القرويين تستغرق بين خمسة أعوام و15 عاما.
وكان الطلاب يختارون بمحض إرادتهم أساتذتهم ،ل أستاذ حسب اختصاصه في مادة أو أكثر ،فيجلسون في حلقات حول الأستاذ الذي كان يستند بظهره إلى سارية من سواري المسجد.

ولقد اشتهر من فاس جماعة من أهل العلم ،منهم على سبيل التذكير لا الحصر ،أبو عمران الفاسي فقيه أهل القيروان في وقته.وأبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الشهير بابن البناء ،وكان أشهر رياضي في عصره.وأبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ الشهير بابن باجة ،ممن نبغوا في علوم كثيرة منها اللغة العربية والطب ،وكان قد هاجر من الأندلس وتوفي بفاس. ومن العلماء الذين أقاموا بفاس ودرسوا بجامعتها ،ابن خلدون المؤرخ الشهير ومؤسس علم الاجتماع ،ولسان الدين بن الخطيب وابن العربي الحكيم ،وابن مرزوق والعديد غيرهم.

دون نسيان الزوايا والتي لوحدها ظل لديها تاريخ لامع ،وبصمة محفورة داخل البلاد وخارجها مقاومة وإشعاعا روحيا.كل حسب تناقضاتها وترنحها بين المنحى الروحي والسياسي ،حسب مراحل البلاد المختلفة.

تعود الأسوار المحيطة بفاس البالي ،إلى فترة حكم الناصر الموحدي (1199-1213م) .لكن الأبواب التي تخترقها تحمل أغلبها أسماء تعود ،إلى فترة حكم الأدارسة والزناتيين مثل باب الفتوح ،باب الجيسة وباب الحمرة وباب الجديد وباب الحديد ،وباب الخوخة وباب المحروق وباب الدكاكين ،وباب المكينة وباب أبي الجنود ،باب البرجة وباب السمارين وباب جبالة، باب سيدي بوجيدة وباب شمس وباب زيات.
أما حصونها فالبرج الشمالي حصن ،يتواجد شمال فاس البالي سنة 1582م شيد من طرف السعديين.واستمد تصميمه من القلاع البرتغالية التي تعود إلى القرن 16م ،وهو يحتضن حاليا متحف الأسلحة.أما فندق وسقاية النجارين فمعلمتان تطلان على ساحة النجارين من القرن 18م.وتشهد هندستهما وزخارفهما على الأسلوب الجديد ،الذي ميز الهندسة المعمارية الفاسية مع بداية الفترة العلوية.ودار البطحاء هو قصرالسلطان مولاي الحسن الأول ،كان عبارة عن إقامة صيفية أعدت للاستقبالات الملكية ،من طرف السلطان مولاي عبد العزيز سنة 1897.وقد تم تحويله سنة 1915 إلى متحف جهوي للفنون والعادات والحرف ،وفيه معروضات جميلة منها من سجاد وملابس وأسلحة.

وقد اختيرت فاس عاصمة للثقافة الإسلامية ،لما تموج بوهجه من تحركً ثقافيً متميزً على مدار السنة ،يتجسد في مهرجانات للفولكلور والطرب الأصيل والروحي ،واحتفالات دينية وأنشطة متنوعة تشمل شتى أشكال الإبداع.كما صنفت جامعتها القرويين الشهيرة في موسوعة غينيس كأقدم جامعة بمفهوم تلقي العلوم على اختلافها ،وإيواء الطلبة المغتربين ،وكتراث إنساني عالمي منذ سنة 19813.فأضحت فضاء لعقد عدد من التظاهرات الدولية والوطنية في هذا المجال ،منها المؤتمر الدولي لمدن التراث العالمي سنة 1993 ،والمؤتمر العربي للمدن التاريخية العربية الإسلامية.ولازالت المدينة العريقة تتطلب الكثير من الجهد رغم كم التحضر الذي أنارها من حيث حداثة العمران والمصحات ،وأعداد المدارس والفنادق والمشاريع الاقتصادية ،لترتدي عباءتها الذهبية بفخر تاريخها واعتزاز المغاربة ككل ،بما حملته من تمازج عرقي وثقافي وفكري ،صنع منها الأسطورة بامتياز.

الروائية والشاعرة والكاتبة المغربية
جليلة مفتوح
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى