جمال فايز - آخر البشر من لحم ودم.. قصة قصيرة

أسمر. زادته السنون سمرة، بفعل حرارة الشمس، وماء البحر، تكسو وجهه بثور، وعناقيد جلدية، جلس أمام مطعم افتُتح حديثاً للوجبات السريعة، افترش قطعة قماش، وضع فوقها كومة من الجلود، وصندوقاً من خشب الصندل، تزيّنه مسامير نحاسية خاصة، ورثه من جده، الذي ورثه من أجداده.

ظل يراقب المارة بعين نهمة، وكلما مضت الأيام، عظمت فرحته، لرؤيته ازدياد عدد المتردّدين على المطعم، لكن نادراً ما يأتيه أحدهم، وفي هذه الحالات النادرة، كانت الغالبية تطلب منه تلميع أحذيتها.


2

ذات مساء، وبينما بدأ يهم بتناول عشائه، الذي يقدّم له دون مقابل، من المطعم عند وقت إغلاقه، اقترب منه كلب، ينظر إليه، وإلى طعامه، وإلى الأرض بانكسار، يغلّفه حزن لا يعرف ما كنهه، رمى إليه ببضع عظيمات بعيداً عنه، ركض وراءها، جلس يلوكها وهو بين الحين والآخر، ينظر إليه، وللعظيمات، والأرض.


3

طوت الأيام من صحائفه شهوراً عديدة، ويكاد لا يأتيه أحدهم، ولم ييئس، ولم يمل من طول الانتظار. يتابع خطوات الرجال ونسائهم وصغارهم، وإذا تغلغل السأم إلى أعماقه، ردّد .. " الحمد لله على كل شيء".


4

بعد مضي بضع سنين أخرى، كاد ينسى عمله لندرة المتردّدين عليه، لكنه لم يأبه بالأمر كثيراً، كان يشعر بالاطمئنان، فطعامه يأتيه بانتظام من المطعم، ويشعر بالأمان لوجود الكلب معه، الذي قلما يفارقه، ولم يمل من مراقبة الناس، والسيارات الغالية الثمن، التي تقف أمام المطعم، يخرج منها في الغالب صبية صغار، ترافقهم خادمات، وإن لم تقف سيارة، ينظر إلى الصبية، من وراء نافذة المطعم، يبهجه لعبهم، ويحيّره انهماك الخادمات في تناول طعامهم، ويتمتم.. " الحمد لله على كل شيء".



5

مضت سنوات أخرى وهو على حالته، لا شيء تغيّر سوى اسوداد قطعة القماش، وكُشك رأسيّ الشكل، مصنّع من الخشب الصناعي، قدّمته له أمانة البلدية، وطلبت منه أن يجلس في داخله، لكنه لم يفعل، رغم تحذيره مراراً من موظفي أمانة البلدية، كان يجيب بأنه غير قادر على حياة الأسر، وإن حاصرته سياط التهديد، يرد في الشجن:

- لم أُخلق لحياة الأسر، منذ أن ولدت وأنا مدفوع إلى مواجهة أسماك القرش، وانتزاع الدانات من أحشاء البحر، وفراق الأهل، والأحباب.. شهوراً عديدة "هيه" .. لو تعلم ما في الصدر.. ما الذي يتعب الرَجُل..

أقول لك، أنا أقول لك، أن يرى ما لا يحب أن يرى، وإن أحب أن يغيّر، لا يستطيع أن يغيّر، لا يقدر.. كما يفعل الرجال.


ورد الآخر في حزم:

- يا خَبَل هذا ليس بالأسر، إنما هو للحفاظ على جمال المدينة، أمام السيّاح والزائرين، ولحمايتك من الغبار والمطر.


وقاطعه، يواري دمعة التمعت على خده:

- أتركني الله يخليك

وينظر إلى الناس، والسيارات، والعمارات، ومصابيح الشوارع، وإلى الكلب.. يحدّق فيه.. يتأمله.. يمسح على ظهره.

ينظر ثانية إلى المارين أمامه، تتنازعه أسئلة تحيّره.. لماذا بات الناس في عجلة من أمرهم؟.. يتتبع بنظره السيارات الفارهة، المُسيرة من أمامه، وإلى الواقفة أمام المطعم، وإلى الصغار الخارجين وحدهم منها، ولا يفهم.. لماذا لا ترافقهم الخادمات؟.. ينظر إليهم من خلف زجاج المطعم.. يسمع ضحكاتهم .. أحاديثهم، التي لا يفهمها، مثل أغاني المكان، وسَيْل دموعه، التي لا يفهم لم تنهمر الآن.. وإلى الناس، ولم الناس لا تلقي عليه السلام؟.. ولم الغرباء.. أغلب الغرباء.. إن مرّوا من جانبه، ونظروا إلى الصندوق الخشبي، الذي أمامه، ابتسموا في وجه الصندوق؟.. ولم إن ثارت ثائرته، لا يملك إلا أن يشتم الكلب؟ .. ولم الكلب، لا يمل منه؟.. ولم لا يريد أن يبتعد، ويدعه وحده؟ ؟ ؟.


6

وَهَنَتْ صحته، وزادها سوءاً دخول الشتاء، عاد لا يملك اتقاء البرد، إلا أن يتكوّر على نفسه، يتدثر بقطعة كرتون مهترئة، وكلما زاد البرد، تكوّر أكثر، حتى عاد لا يرى منه إلا يده المرتعشة، ممدّدة على الأرض.. باتت هي نظره، وجميع حواسه.

بعد أسبوع على حالته، عادت يده لا ترتعش، وما غاب عن نظره كلبه.. ظل يلازمه، حتى وإن أراد التبوّل.. يلعق جسده، يحميه من الفئران السائبة، ولا يملك إلا أن ينبح في وجوه الراكضين مشياً.

بعد مضي أسبوعين على أسبوعه الأول، انتبه إليه عامل النظافة، من خلال هستيرية نباح الكلب، ذهب تجاهه، ثم ما لبث أن نادى زميله الآخر، لفاه بقطعة القماش، أخذاه إلى السيارة، وحينها، أثناء مشيهما إلى السيارة، كان يتساقط من القماش سواده. قُذف به في فم حاوية قمامة السيارة، ليمتزج جسده مع أحشاء الحاوية، بفعل ثلاثة تروس حديدية، تدور عكس عقارب الساعة.

وواصلا فعل الشيء ذاته، مع بقية أوعية القمامة، الموجودة بجانب المطعم، قبل أن يبتعدا عن المكان والكلب، الذي لم يكف عن النباح، والجري خلف السيارة، فاضطر سائقو السيارات التي وراءه، إلى التخفيف من سرعة سياراتهم، وازدادت أعداد السيارات المُسيّرة خلف سيارة القمامة، وتحوّل المنظر إلى موكب مهيب، إلى أن قفز الكلب في فم الحاوية. ليمتزج لحمه وعظامه مع صاحبه والقمامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى