جون ديفز - المعطف.. قصة قصيرة من أدب الزنوج الأمريكان - ت: كريم المالكي

الوقت خريف. الأوراق خارج الكنيسة تناثرت علي الأرض ميتة ويابسة وبنية اللون. دخان يتصاعد من الموقد. شخص لم يعرفه ديفيد الصغير ينشد »الهي هو الاقرب اليك كان الجو برمته غريبا علي ديفيد: سيبل تجلس الي إحدي جانبيه وأبوه من الجانب الآخر. كانت أفواههم كما لو أنها خيطت تماما في حين انه يفتح فاه بفضول.

هناك الكثير من الاشخاص الذين أراد أن يراهم. وتمني لو انه يجرؤ علي النظر من حوله. وما يعرفه فقط ان ستيفن العجوز الأعمي يجلس خلفه الي جوار الموقد..وبدت قطع القماش الخضراء الموضوعة علي عينيه مضحكة للجميع. وشعر بحركة من حوله. تساءل لماذا اخذوا أمه بهذا الطريق الطويل الي المدينة ليعيدوها مرة ثانية وهي داخل صندوق رمادي مغطاة بالورود. ستكون مرتاحة علي الأريكة في البيت اكثر من قبل.

اخذ يرفس بجزمته المهترئة خلفية المقعد الذي امامه، لكن اباه نظر اليه كان ديفيد قد شهد مثل هذه النظرة من قبل، وأنها تعني قف، وها هو يتوقف. بعد ذلك بدأ يفكر بامه من جديد. ومتي مافعل ذلك تأخذ الصور تومض عبر رأسه. كان دائما لديه شعور خانق في حنجرته كما لو انه يأكل قطعة خبز جافة من صندوق خبز أمه. ها هو يتذكر كل شيء.

والآن يفكر بذلك الوقت الذي ارسلته فيه سيبل للطبيب هو هناك الآن، يقف عند تقاطع الطرق يرفس اقدامه بداخل الطين الأحمر. كان غاضبا ويتخيل وجهه الذي يشبه وجه ابيه عندما يضرب اصبعه بالمطرقة ويصرخ »اللعنة !!

لقد انطلق مسرعا الي الطبيب. لكنه يتذكر ذلك جيدا. ولماذا هو بالذات؟ ألم توقفه سيبل من لعبة »الهندي لتقول بان الأم مريضة جدا جدا؟ لقد ارسلته راكضا لجلب الدكتور باركر واذا لم يجده..

نعم فعليه ان يأتي بدكتور بنسون.. قالت ذلك بعد ان عبست للخطة.

بأي سرعة انطلق نحو الدكتور باركر فلم يتوقف في الطريق ليري ما اذا كان بإمكانه القيام بدحرجة الحجر لأكثر من ثلاث مرات علي سطح الماء. بدلا من ذلك ركض كثيرا وحتي عندما تقطعت انفاسه واصل الخطي راكضا رغم اجهاده بين الغابات لمسافة. ميل ونصف وفوق بيادر الذرة التي تم حصدها ولم يبق سوي جذور سيقانها المقطعة.

واخيرا بلغ البيت الاصفر الصغير حيث يعيش الطبيب استراح بين صفين من اشجار الجميز الطويلة ارتجف قلبه بشدة عندما شاهد مصراعي الباب الاخضرين مغلقين شعر بالجفاف في حنجرته حينما لم يجب احد علي طرقه ولكنه لم يستسلم. كلا! ذهب راجعا عبر حقول الذرة ومن ثم نحو أعلي التل باتجاه المنزل الابيض الذي تعرش فيه النباتات كيفما اتفق عند الرواق الذي يحيط به. كان هناك كلب ينبح وبستاني ابيض صرخ مناديا عليه يأمره بالذهاب من الممر الخلفي لكنه لم يشعر بالاستياء منه الا انه بكي عندما نظرت اليه الخادمة من خلف باب المطبخ قائلة بان الدكتور بنسون غير موجود وعليه الذهاب الي متجر هنت ليبحث عنه هناك. كان عليه ان يجد الطبيب وسيبل قالت ينبغي عليه ذلك. لذلك واصل بحثه. بعد ذلك يقف عند مفترق الطرق رافسا اصابع اقدامه الخارجة من جزمته.

في الأخير رأي دكتور بنسون ذا الشفتين الصغيرتين يجلس في متجر هنت يحتسي قنينة مشروب غازي ومعه ابنه ذو الشعر الاصفر. انه يكره هنت الذي يغش كل زنجي يشتري منه اشياء علي الحساب ويكره الدكتور بنسون. وأكثر مايكره هو ابن الدكتور صاحب الشعر الاشقر. فهو دائما يصرخ خلفه:


»زنجي زنجي لايموت أبدا

أنف متعجرف وعين بارقة ؟


ألمْ يرم الحجر ليصيب كلبه الصغير المرقط؟ وهل بامكانه نسيان ذلك اليوم في مطلع الخريف عندما كان يمشي علي امتداد الطريق وعلي ذراعه معطفه المصنوع من فرو السنجاب- ذلك المعطف الذي اشتراه له أبوه وأمه ببطانة نصف حمراء وأزرار رمادية.

آه انه يتذكر جيدا عندما انتزع ذلك الطفل ذو الشعر الاصفر ابن الدكتور بنسون معطفه من ذراعه واخذ يدوس عليه ويقول: »الزنوج أمثاله ينبغي ان لايكون لديهم مثل هذا المعطف مطلقا واذا كان يرغب بشراء معطف فعليه التقاط ماينبغي ان يرتديه الزنوج عموما.

ولكنه لن يتلقي الأوامر من اي شخص ابيض تافه وسييء حيث طيح برأسه الي الخلف وشد علي قبضتي يده وابتعد تاركا معطفه علي جانب الطريق.

لم يكن يشعر بالفخر في هذه اللحظة؟ ارسلت امه سيبل للبحث عن المعطف غير انه لم يكن هناك. وقد جلدته بالسوط حيث بكي بعد ذلك. وقبلته من شفتيه المرتجفتين. كم يتذكر هذه القبلة! كانت مقابل الجلد الذي تعرض له. انها أنسته كل شيء باستثناء مافعله ابن الدكتور بنسون. لم يكن يكترث لوجوب ان تشتري له أمه معطفاً مستعملاً كئيباً من المتجر اليهودي مقابل »98 سنتاً »فيما كانت قيمة الأول 7 دولارات .. لقد كان فخوراً لأنه أظهر لابن بنسون أنه لا يتلقي أوامره من شخص تافه أبيض وسيئ حتي لو كان أصغر منه.

والآن ترسلني سيبل لوالد هذا الطفل المزعج، ولكن ما الجيد بأحسن الأحوال بهذا الدكتور الأبيض السيئ؟ إنه لا يعرف شيئاً عن الطب، أبي قال إنه لا يعرف شيئاً.. كل ما يفعله سيحمل والدي الكثير من المصاريف من دون أن يقدم شيئاً لأمي، وقد يسممها وسيكون وضيعاً ودنيئاً حقاً لو فعل مثل ذلك.. ما الفائدة المرجوة من احضاره؟ لقد قال أبي هذا الصباح إنه سيحضر دكتور ملون إلي البيت بعد إنتهاء عمله. وسيبل مجرد فتاة مرعوبة. وكثيراً ما تندهش من أي شيء. وماذا يعرف والد هذا الطفل الصغير والتافه عن علاج الناس؟ تردد واضطرب - في البداية قرر احضار الطبيب ثم تراجع وحتي حينما كان علي مسافة ربع ميل استدار ليعود أدراجه ولكنه من جديد أنتابته رؤية معطفه وهو مرمي ممزق علي الأرض القذرة. وكل شيء أصبح أسود ثم أحمر.

تساءل عما سيقوله لسيبل عندما يرجع للبيت.. فهو لا يستطيع إخبارها عن عدم إحضاره لدكتور بنسون. ولن تتفهم أسبابه. ماذا يمكن أن يخبرها؟ حسناً كان أفضل له أن يقرر سريعاً في سرد قصة واضحة ويخدعها.. واذا اكتشفت سيبل أنه يكذب فستخبر والده وينال جلداً مبرحاً. غير أن سيبل لم ترد الدكتور بنسون في الحقيقة. ألم تقل أحضر الطبيب باركر وأنها تقريباً لم تقل الدكتور بنسون؟ حسناً من الأفضل أن يسرع بالعودة للبيت لأنها ستقلق عليه.

تذكر بوضوح تام كيف تصرفت سيبل: كيف كانت شاحبة عندما قالت: لكنك- فتي - لا يمكنك أن تحضر أي.. شخص؟ أنه يكره نفسه آلاف المرات منذ أن هز رأسه. سيبل بكت وبكت إلي أن أرادت الدخول إلي أمها حيث زمت شفتيها ومسحت عينيها بمنديلها القطني ودخلت بوجهها المتجمد علي ابتسامة.. كم كانت سيبل شجاعة! كثيراً ما فكر بها كفتاة شجاعة وأشبه بسيدة عجوز شعر بالخسة والأسف. وحاول أيضاً التظاهر بعدم إحضاره للدكتور لجلب الماء وملء المخزن بالخشب.

بعد ذلك جاءت سيبل وأخذته ليري أمه. ارتجف. كم هي شاحبة وبيضاء وهي تضطجع هناك- أكثر بياضاً من أي امرأة بيضاء شاهدها في حياته. كانت عيناها سوداوتين ومغرورقتين بالدموع وبدت بشرة وجهها متخشبة وبدت كما لو أنها تنسحق من الداخل. طلبت منه أن يقبلها وعندما فعل وجد أن شفتيها لزجتان وغير طبيعيتين.. كم هو حجم الخسة التي شعر بها. تمني لو أستطاع الهروب من الغرفة. ورغب بالبكاء وتفجرت عيناه بالدموع. وكان سيبكي كثيراً لو أن سيبل لم توبخه وتهز رأسها. إنه دائماً يتفهم سيبل.

سمع أمه بوضوح وهي تأخذ العهد من سيبل أن تعتني ب»ديفي بوي وهو الاسم الذي تناديه به وأن تكون فتاة جيدة من أجل أمها، ثم سألته أن يكون جيداً مع سيبل وأبيه ويجلب قطع الخشب كلما طلبت منه أخته. بدا الموقف بالنسبة له وكأنه شبيه بالمرات التي تذهب بها أمه إلي المدينة وتتركه في عناية سيبل. تعهد بما طلبت حيث سارعت لاحتضانه وتركت لأصابعها تندس بين خصلات شعره وأخذت تقبله وتقبله.

بعد ذلك عاد أبوه من العمل وبصحبته دكتور ملون طويل القامة ودخل الاثنان إلي غرفة أمه. ويتذكر جيداً أنه وسيبل جلسا سويا علي صندوق المطبخ الخشبي ليسترقا السمع إلي كلمات الطبيب وأبيه. كان وقت طويل قد مضي ودخلت الظلمة أكثر فأكثر وسرعان ما أصبح كل شيء مظلماً. أوقدت سايب المصباح الزيتي وعادت لتجلس إلي جواره.

أخيراً ظهر الأب متعباً وزوايا فمه ترتجف والتجاعيد التي تحت عينيه أكثر سواداً من أي وقت مضي ينتظر ديفيد وقد دعاهما للدخول إلي غرفة أمهما، التي كانت تحاول أن تقول شيئاً لكن الدموع منعتها.. وبينما أعادت سيبل إلي الخلف خصلات شعرها الناعم الطويل المتدلي علي عينيها قالت: أم...اه.. حيث كان جسمها يرتعش بأكمله، أم...اه.. ومن ثم تذكر ديفيد بأن شيئاً ما أشبه بالريح قد لفح وجهه وعندما نظر إلي أمه مرة أخري كانت قد أغلقت عينيها.

وسمع الطبيب يقول وهو يهز رأسه: »وصلت قبل أكثر من ساعتين! فكر ديفيد في كل مرة قبلته أمه من قبل.. وفكر في نفسه وهو يقف عند تقاطع الطريق يراقب الدكتور بنسون وهو يحتسي مشروبه الغازي، سقط علي الأريكة وأخذ يبكي ويبكي وأبوه يحاول تهدئته فيما كانت سيبل تنظر من النافذة للظلام حيث كانت تقف بفوطتها البيضاء ذابلة كوردة بيضاء في جرة فواكه علي مائدة المطبخ.

لم يكن ديفيد يعرف كم مضي من الوقت منذ بدء التفكير بكل هذا لكنه ظل هادئاً تماماً طوال ذلك. والآن يلقي نظرات جانبية حول الكنيسة. كان »الديكون جانت الطويل يصلي وتقوم سيبل بإحناء رأسها له حيث يرتل قائلاً: »نحن نؤمن بك أيها الرب ، والبقية كانت مجرد مقاطع بالنسبة لديفيد. أما الجدة الكبيرة سيمس فكانت تنظر باتجاه الظلمة وبدت حزينة جداً فيما سالت الدموع علي أخاديد وجهها الأسود المتغضن. ولكن بدا منظرها مضحكاً وهي تضع ريشاً ناعماً أرجواني اللون علي قبعتها وياقة عسكرية علي فستانها الأبيض المنشي.

وشعر ديفيد بأن شيئاً ما سيحدث، وقف الجميع، هو وأبوه وسيبل، ثم قادته سيبل من أمام الصندوق الرمادي.. كان ينظر إلي عيني أمه المغلقتين. كم بدت خدودها ممتلئة وليس كما كانت مريضة.. كان بإمكانه سماع الأصوات من حوله وأعتقد أنه يسمع صوت ابن الدكتور بنسون يصرخ خلفه، وتقريباً شاهد لساناً يبرز من وجه شاحب يعتليه شعر أصفر.. وتخيل أنه يسمع أمه تناديه ديفي بوي .

كل شيء ساده الذهول. عندما أدرك بعد ذلك ما يحيط به.. كان في عربة سوداء يجرها حصانان، سيبل تصرخ والأب يغط في صمت كالحجر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى