عبدالله البقالي - المسكن " 34".. قصة قصيرة

كان الباحث الإحصائي لا يزال محتفظا بابتسامته عندما اتجه لبوابة سطح مفض لمسكن ملحق بالطابق الخامس من إحدى العمارات . ومرد تلك الابتسامة يعود للانطباع الجيد الذي خلفه في نفسه اثر اخر زيارة ، حتى انه عجب كيف يمكن ان تكون هناك اسرة بذلك الرقي في ذلك الحي الهامشي في اطراف مدينة متروكة لتواجه القدر لوحدها. غير أن تلك الابتسامة سرعان ما خبت حين تناهت الى مسمعه أصوات صاخبة منهمكة في خصام حاد . و ذلك جعله يحتار ما إن كان يتوجب عليه قرع الباب او انتظار هدوء العاصفة مخافة ان يتحول ذلك السخط ضده، خصوصا و أنه كان يدرك ان زياراته لم تكن محل ترحيب من قبل الناس حتى في الاحوال العادية ، فكيف سيكون الامر في حال كهذا .
اختار التريث . و اللحظات التي توقف فيها مكنته من معرفة نوع الاشخاص المتخاصمين . الصوت الاول كان لامرأة كبيرة السن، وهي التي كانت المندفعة . أما صاحبة الصوت الثاني فكان لشابة او طفلة غادرت الصبا للتو.
انتبه الباحث ان تريثه قد يفسر في حال اكتشاف امره بأشياء سيئة سوف لن يجد ما يفندها به.
قرع الباب ، و بعد لحظات وجد نفسه في مواجهة امراة اثارت استغرابه، خصوصا وقد تعود ان سكان السطوح هم من طينة معينة لم تبتسم لهم المدينة بعد . لكنه لم ير من قبل امرأة بتلك المواصفات تسكن سطحا . فارعة الطول . رشيقة القد و القوام . محتفظة بجمال صاعق بالرغم من تقدمها في السن . ذراعان منحوتان بمهارة و فنية . و لأنها بلقاء ، فقد كان ذلك القماش الاسود الشفاف يبيح له قراءة كل التفاصيل المتعلقة بجسدها. شعرها يحظى بعناية ، وبالرغم ان الوقت كان صباحا، فالوجه يشهد من خلال المساحيق التي كان لا يزال ملطخا بها على انها كانت في ابهى اناقتها في الليلة المنصرمة.
قدم الباحث نفسه فأمرته المرأة دون اكتراث بالانتظار حتى تحضر له كرسيا . وبعد لحظات حضرت مقدمة اعتذارها لكونها لا تستطيع ان تستقبله داخل الغرفة بسبب فوضى المكان.
فتح الباحث حقيبته و أخرج اوراقه . نظر الى المرأة التي جلست قبالته على كرسي صغير ، فلاحظ انها بتلك الكيفية قد جعلت كل جسدها مكشوفا له . لكن الذي اثاره فعلا هو التحول السريع في مزاجها . تلاشى الغضب وتحول الي هدوء قارب الخنوع . وقبل ان يسألها قالت المرأة : اعتذر مرة اخرى عن الجو غير المناسب . ثم اضافت دون اهتمام من الباحث :
- لقد كنت في خلاف حاد مع ابنتي . هي تصر على متابعة الدراسة و انا ارفض ذلك .
رفع الباحث عينيه عن اوراقه ونظر غير مصدق لما يسمعه فسألته المراة :
- ما بك؟ لماذا تنظر إلي هكذا؟
تلعثم الباحث وبحث عن الكلمات المناسبة ، وبعدها اوضح :
- أنا في الحقيقة لا افهم شيئا مما تقولينه .
- مثل ماذا مثلا ؟
أحس الباحث بحرج متزايد و قال :
- ليس من حقي أن اتدخل في هذا الموضوع ، لكني كإنسان يهمه ما يحدث في هذا المجتمع ، سأقول لك أني أجد موقفك غير مفهوم .
- لماذا ؟
- أنت من خلال شكلك تبدين إنسانة عصرية ، ولذا فالناس من شاكلتك لهم موقف إيجابي من التعلم .
قاطعته المرأة بسخرية وتهكم:
- هذا حين كانت المدرسة مدرسة .
اندهش الباحث وقال :
- وهل هي الان غير ما كانت عليه من قبل ؟
ترددت المرأة في التعقيب ، بل يبدو أنها خافت ، لكن الطابع المسالم للباحث شجعها على المضي في الكلام وقالت :
- لا يا أستاذ ... ليس معك من يجب ان امثل انا دور العارف . لكن مع أصناف أخرى فلن ارضى بغير مكانة الامام.
- لكني مصر على ان اسمع منك الجواب .
ردت المرأة :
- إذا كان الامر كذلك فيؤسفني أن أقول لك ان المدرسة قد غيرت وظيفتها . و انها تختص الان في تحويل بنات الناس الى عاهرات .
وضع الباحث المحفظة و الاوراق .هم ان يقول شيئا ما لكنه احس أن أمرا ما استوقفه و شل حركته . تلاشى اندفاعه . هل بدت له المرأة محقة؟ هل وجد الجدال مضيعة للوقت ؟
رد الباحث بهدوء بعد ذلك :
- هب أن ما قلته هو عين الصواب . فهل لديك شئ بديل؟
قالت المرأة :
- يبدو انك لم تفهم قصدي . ابنتي و بنات و اولاد غيري يمضون سنين طوال في الدراسة . وحتى في حال حصولهم على شواهد، فإنهم في الغالب لن يجدونها نافعة ما داموا لن يحصلوا على عمل . و بالمقابل يكون قد فات عليهم الوقت من اجل اكتساب حرفة او صنعة تجعلهم من خلالها يكسبون قوت عيشهم . فماذا ستفعل ابنة جميلة في حال كهذا خصوصا ان مقاومة الناس للمغريات قد تلاشت . ومن يقدمون خدمات العيش الرغيد لهم اغراءات لا تقاوم ، ألن تلجأ ابنتي في حال كهذا الى تحويل جسدها الى سلعة تقتات من خلال استئجاره؟
فكر الباحث في ان يقول شيئا ما ، أن يقر بأن ما قالته المرأة هو حق، و ان هناك فعلا خطا. غير ان المرأة لم تترك له ان يمضي بعيدا في استطراده . فأضافت قائلة:
- ثم أنا لا أريد ان أعيش الحكاية نفسها مرتين .
قال الباحث :
- أي حكاية ؟
- لا أريد ان ألعب دور المراقبة . ثم ان هذا الدور لا يكلل بالنجاح . تصور طوال سنين و انا أجري وراء أختها جيئة و ذهابا في غدوها و رواحها من المدرسة. وكل ذلك من اجل إبعادها عن ما يجري حولها. و في لحظة سهو واحدة ، حدثت الكارثة . ولم انتبه إلا على صورة بطنها و قد انتفخت . وكل ما استطعت فعله بعد ذلك هو اني أهديت الجاني وأهله قنا يقوم بكل الأعباء و المهام الشاقة من أجل دفعها للإنسحاب من حياتهم . لكنها أبهرتني مثلما أبهرتهم بقدرتها على التحمل ، وحين بدا لهم ان خيارهم فاشل لامحالة ، خيروها بيني و بينهم .
التقطت المرأة أنفاسها و سألت الباحث :
- أتعرف ماذا أشتغل ؟
لم يكن الجواب بعيدا عن ذهن الباحث. لكنها جنبته الإحراج مجيبة :
- انا عاهرة . هل تعرف ماذا يعني ان تكون المراة عاهرة؟
انبهر الباحث الذي أذهلته جرأة و صراحة المرأة . فهو لأول مرة في حياته يصادف امرأة لا يحرجها من أن تصرح بكونها عاهرة . قالت المراة :
- لا تنظر إلي هكذا ، إنها لقمة من عدم كل الخيارات . وعليك أن تعي أنه لا يوجد إنسان سوي في هذا الوجود .. و العاهرة هي المنظار الذي لا تغالطه الطلاءات و الألوان الحربائية . و ان أعتى الرجال و اكثرهم ادعاء للعفة و التطهر لا يستطيع في النهاية من ان يمنع اهواءه من أن ترميه على صدر امرأة ليداعب ثدييها كأي طفل صغير و يستلذ بتوسد بطنها . وقد لا يمنع نفسه من ان يبكي و يلوم الأيام التي انتشلته من طفولته.
في لحظات كهذه تبدو الحياة قد صالحت نفسها ، و ان الحب و اللذة يستطيعان أن يكنسا كل ما علق بالحياة من كل ما التصق بها من شوائب . و لذلك فعاهرة مثلي تعتقد ان في تلك الحال تشرق الشمس لها وحدها . و انها تصير الرحاب التي اختصت بصناعة روعة الحياة . لكن المؤلم هو ان الرجال لا يلبسون في النهاية ملابسهم وحدها . وهنا لا يبقى لعاهرة مثلي سوى التذكارات و الهول الذي يصنعه الفارق بين الحالتين . كيف تكونين في لحظة ملكة لا تاج يضاهي تاجها ، و في اللحظة الموالية تصيرين أي شئ سيء تنبذه الأحياء و الشرائع. زمن آخر طويل يمتد في النهاية لا شئ فيه غير الظلمة و البرودة . ويصبح النيل منك المطلب الذي يمكن ان يصنع التماسك الذي يغلف الحياة الهشة للآخرين.
لهذه الأسباب لا أريد لابنتي أن تعيش الحكاية نفسها . لذلك يا سيدي هلا تفضلت و أقنعت هذه البائسة بصحة ما أراه ؟.. أتوسل إليك.
قال الباحث كمثل من استفاق من رحلة طويلة :
- أنا ؟.. أقنعها؟.. أقنعها بماذا ؟.. لا، لا . لا أستطيع. أنت محقة يا سيدتي في كل ما قلته . ولا شك أنها هي أيضا محقة بالتمسك في حقها بالتعلم.
قالت المرأة :
- و أين الخطأ اذن ؟ ومن المخطئ؟
رد الباحث متخليا عن تحفظه :
- هو بلا شك في النطاق الذي هندسه الساسة حين فعلوا كل شئ حتى لا تقع أبصارنا على كراسيهم ، و أن نتدبر أمورنا في الحياة غير معتمدين على ميزانيات حكوماتهم .

عبدالله البقالي
* من مجموعة " انفاس و هوامش"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى