توفيق عابد - نيتشه خدعني!..

كيف استطاعت فلسفة نيتشه الغرائبية أن تتغلغل في الفكر العربي؟ وإلى أي مدى تركت آثارا في هذا الفكر الرازح تحت نير التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي؟ هذا ما حاولت الباحثة نهلة الجمزاوي الإجابة عنه في مؤلفها الجديد “فلسفة الأخلاق عند نيتشه.. وأثرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر.. سلامة موسى أنموذجا”.
والكتاب (188 صفحة من القطع الكبير)، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمّان، يستعرض تأثر تسعة من كبار المفكرين العرب، أبرزهم المفكر اللبناني مرقص فرج بشارة الذي كان أول من كتب عن فريدريك نيتشه بالعربية، لكن مقال سلامة موسى “نيتشه وابن الإنسان” سبقه بحسب نبيل بشارة ابن مرقص، وكذلك جبران خليل جبران الأديب الذي تقمصه فكرا وأسلوبا، وكتب على طريقته، وتأثر ايجابيا بإرادة القوة “الإنسان الأعلى” مما انعكس في نتاجاته الأدبية بشكل واضح، ولا سيما في كتابيه “النبي” و”السابق”.
ووفق المؤلفة فإنه يسجل للبناني فرح انطون أنه أول من أدخل فلسفة نيتشه للفكر العربي عبر مقال بعنوان “فيلسوف لا يعرف اسمه قرّاء اللغة العربية” بأسلوب محايد نسبيا، وابتعد قدر المستطاع عمّا يتعارض مع الأديان، وقدمه بقالب مقبول يدعو خلاله لشحذ الهمم والإرادة القوية وسحق الانحطاط والإقبال على الحياة بحماسة.

نيتشه والمتنبي
ومن المتأثرين بالفيلسوف الألماني عباس محمود العقاد الذي استطاع الجمع بين نيتشه والمتنبي “القوة والسيادة”، واكتشف تشابه فلسفة الأخلاق بينهما “أخلاق السادة والعبيد” الذي يرى ـ أي العقاد ـ أن المتنبي وفّق توفيقا جميلا بين داروين ونيتشه في تعليل بواعث الأخلاق ومصادر الفضائل، فداروين يعتبر حفظ الذات أو إرادة الحياة هو مرد الأخلاق بحسنها وقبحها، في حين يسترذل نيتشه هذا الرأي الذي جاء نتيجة العوز الذي يجعله قانعا بأن يعيش ولا يتطلع لغير الأمن والكفاف، ويرى أن الباعث الأول للأخلاق الشريفة والكريمة هو أرادة القوة.
وهناك أيضا المصريون عبد الرحمن بدوي ومحمود أمين العالم والفلسطيني هشام شرابي، وكذلك فؤاد زكريا الذي استغرب من سخرية نيتشه من الفلاسفة التجريديين ووصفه بأنه إنسان نظري، وهو أحط صورة للإنسان وتفكيره وجه من أوجه نشاط عقله الخاص “حياة نيتشه لم تكن تقود تفكيره بل كان تفكيره هو الذي يقود حياته”. لسنا في حاجة للخوض في فلسفة نيتشه التي تقوم على ثلاثية “القوة.. إرادة الحياة.. الإنسان السوبر” (الأبرمنش) لكننا سنركز في الدرجة الأولى على تأثيره وتأثر سلامة موسى بخاصة، والمفكرين العرب بفلسفته، لنجد أنه على الرغم من تأثرهم بفلسفته الأخلاقية حد الانبهار أحيانا إلا أننا لم نجد من بينهم من اعتنق نيتشه وعبر عن ذلك بجرأة تضاهي جرأته، فثمة مراوغة لدى المفكرين والمؤلفين العرب ومحاولات تسويغ قام بها البعض بأسلوب ضمني، بينما عبّر عنها آخرون بصراحة مغلوطة خوفا من تهمتي الكفر والزندقة اللتين كانتا توجهان للمشتغلين بالفلسفة.

سلامة والسوبرمان
أما تأثيره على سلامة موسى وهو موضوع البحث فيرى باحثون أنه ردد فلسفة نيتشه بكل شجاعة داعيا إلى التخلص من أسر الفكر الغيبي وكل القيم الرجعية المستمدة من العادات والتقاليد واعتبرها قيودا تخدّر العقل والحواس وتعمي الأبصار وتؤدي إلى الهاوية، حسب رأيه، ومن هنا تحددت أهمية فكر سلامة موسى في ربطه لقضيتي التخلص من الغيبيات بوصفها ضرورة للارتقاء بالطبقات المطحونة من جهة واعتبار تحرر هذه الطبقات من وهم الخرافة شرطا لتحررها من قيد وعبودية الاستغلال الطبقي من جهة أخرى.
وفي هذا الشأن يرى الفيلسوف محمود الشرقاوي كما جاء في “فلسفة الأخلاق عند نيتشه وأثرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر” أن سلامه موسى تحمس كثيرا لفلسفة نيتشه داعيا إلى “السوبرمان” أي الإنسان المختار أو الممتاز وصدّر رسالته بكلمة لنيتشه “الإنسان جسر تخطو عليه الطبيعة من الحيوان إلى السوبرمان”.
أما غالي شكري فيصف تأثر سلامه موسى بفلسفة نيتشه بقوله: “وهذه أسكرت سلامة موسى فالرغبة في إيجاد السوبرمان وتمجيد الأقوياء الممتازين واللغة الشعرية الساحرة التي عرض بها الفيلسوف الألماني أفكاره تآمرت على تفكير الشاب المصري أثناء انغماسه في نظرية التطور”.
وحسب شكري فإن سلامة موسى لم يعن بتفاصيل النيتشوية كفلسفة عنصرية وإنما كانت تستهويه دلالاتها الخطيرة بالنسبة للقيم والأخلاق والدين، ولم يلتفت لنقد نيتشه للداروينية عندما اعتبر أن مذهبها في تنازع البقاء مذهب باطل “الحياة ليست تنازعا في البقاء بل هي تنازع في القوة والسيطرة”، ويقول شكري: “لم يجرؤ أحد من المفكرين على الجمع بين نيتشه والاشتراكية مثل سلامه موسى”.

تزاوج الشعوب
ويتحدث موسى عن الاضطهاد الديني، حسب الكتاب، بوصفه عاملا من عوامل عرقلة ظهور الجنس الأفضل لأن الذي يضطهده رجال الدين هو الرجل المفكر الجريء الذي تدفعه كرامته للدفاع عن رأيه والثبات عليه، ويرى أن من شروط ظهور “السوبرمان” امتزاج الشعوب والتزاوج بين أمم معينة عامل مهم لخروج نوع إنساني متطور، ويجد أن المصري يكتسب إذا تزوج من الأوروبيين وينحط إذا أمتزج دمه بدم الزنوج حسب رأيه، وفي هذا ما يشبه قول نيتشه “أود لو تميد الأرض بي عندما أرى رجلا فاضلا يتخذ له زوجة حمقاء”. وفي هذا الخصوص يدعو سلامة للتكافؤ في الزواج واختيار الفتاة الذكية الجميلة التي تكون جديرة بأن تكون أما لأولادنا وليس تلك التي تجيد طبخ الملوخية أو فن إغراء زوجها، بل التي نخاطب فيها عقلها المفلسف النير السخي وليست التي نخاطب فيها الثديين الرخيمين والبطن الطري. ويكرر المفكر عصمت نصّار ما أجمع عليه المفكرون من تأثر سلامه موسى بنيتشه اعتمادا على حديث سلامه نفسه “أنه ظل أسيرا لفلسفة نيتشه الأخلاقية معظم سنوات شبابه وأنه من أوائل المفكرين الذين عملوا على نشر آراء نيتشه والترويج لنظرية السوبرمان في مصر”، وقوله أي موسى “عرفت الفلسفة وعرفت نفسي من نيتشه”، لكن موسى انقلب على نيتشه وأعرب عن أسفه الشديد على سنوات عمره التي أضاعها في الترويج لأفكاره.. نيتشه خدعني فافتتنت به سنوات قبل أن أتخلص منه وإحساسي نحوه هو الحب”. وهنا نسب “فلسفة الأخلاق عند نيتشه وأثرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر” لسلامة موسى قوله “أن فلسفة نيتشه ترمي لجعل غاية الحياة خدمة الأقلية من الشخصيات السامية وليس خدمة الأكثرية.. وهو هنا عدو الديمقراطية يطلب أخلاق السادة بدلا من أخلاق القطيع كما يصف عامة الشعب”. وفي هذا الشأن أكد الباحثون قضيتين، الأولى أن سلامه موسى تأثر بنيتشه في بداية حياته الفكرية والمعرفية فأكسبه النفس الثائرة من أجل تحرير الواقع المصري والشرقي من تخلفه وجهله، ونادى بالإنسان السوبرمان وأخلاق القوة، وفي الثانية استطاع سلامة وبجدارة أن يجمع بين النيتشوية وغيرها من الأفكار المناقضة التي استقاها من أعلام الفكر الأوروبي بعامة وكارل ماركس بخاصة. ويبقى السؤال قائما: كيف يكون نيتشه رجعياً يمينياً في أوروبا ويكون تقدمياً في وطننا العربي حسب ما طرحه رئيس الجمعية الفلسفية الأردنية الدكتور هشام غصيب في حفل إشهار الكتاب؟.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى