عباس محمود العقاد - مذهب نيتشه..

نيتشه عدو الضعف يريد أن يجعل العالم قويٍّا لا بتطهيره من الضعف ولا بأن يهتم بترقية علم الطب، ولكن بما هو أيسر عليه من جميع ذلك، باستئصال الضعفاء منه. يصيح أشياعه: انبذوا الضعيف ولا تأخذكم به رحمة؛ لأن الرحمة تُعاكس ناموس بقاء الأصلح في مهمته وتُبقي على من لا يستحق البقاء.

ولكن من هو القوي؟ ومن هو الأصلح للبقاء؟

هذا ما لا يمكن أن تعرفه من نيتشه ولا من أشياعه.

إن القوى البدنية لم تعد ذات شأن في تمييز الصالح من غير الصالح؛ فالضعيف والقوي يدرآن عن نفسيهما بسلاح واحد. وأضعف الضعفاء الذي لا يقوى على رفع أخف حمل عن الأرض في وسعه أن يقتل ستة من جبابرة المصارعين بتحريك أنملته.

ومع ذلك ففي أي وقت نبدأ بحصرالضعفاء والأقوياء؟ ومن أدرانا أن هذا السقيم الفانيَ الذي نقلته اليوم لا يُصبح صحيحًا معافىً غدًا خصوصًا إذا نظرنا إلى ما يُرجى من تقدم وسائل العلاج عامًا بعد عام، وأن هذا الغليظ الشديد الذي نُبقي عليه لا يصبح مثله سقيمًا في يوم من الأيام؟

ثم من هو الأصلح وكيف نعرفه وبأي معيار نقيس صلاحه؟ وإلى من نكل فرز الصالح من سواه؟ وفي أي عمل نجرِّبه؟ أفي عمل واحد أم نتركه حتى نردده على كافة الأعمال؟ وهل نعتبر صلاحيته بالنسبة إلى فترة محدودة أو بلد معين أم يكون ذلك بالنسبة إلى جميع الأزمان والبلدان؟

ومن أدرى هؤلاء الجراحين الذين لا يُحسنون غير البتر علاجًا، لعل الرحمة لا تكون من مقتضيات الرقي الإنساني ولوازم الاجتماع البشري إذا كان أصلها غير مشاهد في الحيوان؟

إن نيتشه وأشياعه هم الذي يعاكسون بهذا التداخل ناموس بقاء الأصلح، فإنهم بدلًا من أن يتركوه مكبٍّا على عمله ينفي الضار ويُبقي النافع يعترضونه في وظيفته ويتحكمون فيما من شأنه وحده الفصل فيه.

..............
(*) من كتاب (خلاصة اليومية والشذور)، 1912.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى