نقوس المهدي - محمد ابزيكا.. المثقف الاصيل

أحببت كتابات محمد ابزيكا دون أن أراه.. منذ أن طالعتني مقالاته المبكرة حول شجون الثقافة الشعبية وبالخصوص ظاهرة ناس الغيوان، التي كانت حدث الموسيقا المغربية والمغنى العربي في فجر سبعينات القرن الفائت ، وأكبرت فكره وتوجهه فآمنت بموهبته منذ أن طالعني اسمه كاتبا على صفحات مجلة "الثقافة الجديدة" ومجلة "آفاق"، وبعض الملاحق الثقافية ذات الصوت العالي والصيت الكبير والهائل إبان مجد وعنفوان الحراك السياسي والغليان الثقافي والفكري المغربي بعقد السبعينيات والثمانينات، أزهى العقود بتاريخ المغرب الحديث على الاطلاق.. الذي صنعه لفيف من رجالات و نسوان الجيل المنقرض من الكتاب والمفكرين المغاربة الشرفاء العظام الذين لا نزال نقتات على محاصيلهم من حصاد الفكر والمعرفة - قبل ان يزحف تيار الفكر الوهابي بظلاميته وانتهازيته الرهيبة ليقضي على التفكير العقلاني - فأدركت فيه نموذجا للكاتب المتحرر ، والمناضل الطبقي بمنظوره الغرامشي الذي لا يرى مبررا لفصل الفكر عن الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والذي عناه الجابري بقوله: "أنَّ المثقف هو الذي يلتصق بهموم وطنه، وبهموم الطبقات المقهورة والكادحة.."، والباحث الكوسموبوليتي الذي يناضل على عدة جبهات، منقبا برفش المعرفة عن خفايا ومبهمات الفلكلور والمأتور الشعبي ، وجذوره العميقة الضاربة في الاصالة. الطاعنة في النسيان ، دون دعوة منه للتطرف الفكري ، والتعصب للثقافة الامازيغية التي ينتمي اليها ، أو نشييء جانب على حساب جانب آخر.. أو اللهاث وراء أشياء أخرى غريبة مما ينادي بها في الوقت الراهن بعض مرتزقة المبادرة الوثنية التي اطلقها النظام الفاسد لارشاء المجتمع المدني الضعيف والمهلهل والجشع ، والذي تسابق على فتاتها بعض الثقفوت المرتزقة، والمتحذلقين والتسويغيين كبادرة هجينة من المخزن لاحتوائهم، وتدجينهم، وكسر شوكتهم، واسكات شدوقهم ، وحشو كروشهم بطمع الدنيا ، و مسخ هذه الثقافة الجميلة النظيفة الأصيلة ، وتسييحها بشكل مذل ومهين ، واختزالها في مجرد تبوريدة وحفلات رقص سخيفة ، وتحويلها إلى زعيق و رقص و فضائح بجلاجل

و كان حديثه العميق على بياض تلك المنابر يدور حول الثقافة الشعبية بكل تلاوينها وتناصاتها مع باقي التراث المغربي، وينصب على شجونها ومظاهرها واصولها التي احتدمت وقتئذ واشعلت فتيل النقاشات وأججت الحوارات التي ارهقت النظام وجلاوزته الفاسدين وايقظت الوعي الطبقي المغربي ووجهت بوصلته نحو بؤر الفساد والظلم ، ليحكم عليها بالاعدام والحجب والمنع والتضييق .. وفي وقت ازدهرت فيه الحوارات الحادة ، وانتعشت فيه المجلات الجادة ، وكان الجمر والرصاص ، وكان الأدب الملتزم ، وكانت السينما الهادفة ، وكان الفن التشكيلي ، وكانت الكتب الفكرية التنويرية ، وكانت دعوات لاعادة قراءة التراث العربي ، وكانت الفلسفة قبل ان تغلق شعبتها ، وكانت اللقاءات الرفاقية الصادقة ، وكانت الموضات المتحررة ، وكان المسرح ، وكانت الرياضات ، وكانت ظاهرة فرق ناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب ورعاة الصحرا وازنزارن وكناوة ، وكانت الافكار الليبرالية المتنورة ، وكانت النقاشات الهادئة غير المكلوءة بالعيون المعمشة والمغبشة للبصاصين والمندسين و" العياشة"، وكانت الثقافة والموسيقى الشعبية بكل مشاربها وانتماءاتها القبلية والإثنية ، وكان وكانت تلك الاهتمامات جميعها محور كتابات محمد ابزيكا ومجايليه من الكتاب والفنانين الشباب ، وتركت صدى وشذى يفوح رحيقه لايزال من بين سجوف الماضي المشرف مقارنة مع المآل المأساوي لهذا الحاضر الكئيب .. والذي اكتسحته جرافات المبادرة الوطنية.. والذاكرة الحربائية الخؤون ، بعد ان بادر المخزن الى محاربة هذا الفوران الفكري وإفراغه من جوهره ، وتسلط كائنات أقل دراية على هذه الثقافة المسكينة ، بعد رحيل شهودها الكبار ، واستنبات كائنات أخرى بلحي طويلة كالمخلاة نكاية في الوطن ، الشيء الذي ينبئ عن موت المثقف

اختفت اخبار محمد ابزيكا منذها ، وانا استذكره وابعت ذكره مرات ومرات بين الاصدقاء الذين لم يسمع بعضهم باسم كهذا ، لحداثة سنهم أو لأشياء أخرى أصبحت كثيرة ، واستفسرت عنه بعض اصدقائي باكادير أثناء ترددي على سجن انزكان لزيارة احد اقربائي ، والذي غنمت منه ذكريات سيئة و تعيسة جراء سوء التسيير وفساد بعض موظفيه ، الا ان هدتني الذاكرة لأسائل عنه السيد غوغل الذي هداني لبعض المقالات القليلة جدا من عشران أصفياء أوفياء مخلصين للعشرات ، و لأخبار محزنة عن غيابه في صمت تام وسط عقوق الاعدقاء ، وتناسي هيئات الكتبة ، وتعنت الادارة المغربية التي استصغرت فيه مقرا يمجد اسمه مخافة ان يتحول الى ولي ثقافي صالح أو قطب فكري يحج اليه طلاب المدد والإغاثة ، هو الذي جحد وزهد في بركات وهبات ومعجزات الأنبياء و الاولياء والصالحين من العالمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى