كرة القدم محمد بودويك - كرة القدم.. مالئة الدنيا وشاغلة الناس

قد يكون اكتشاف شكل الأرض الكروي، سببا مباشرا في "ابتكار" الكرة.. كرة القدم على وجه التعيين. أفترض هذا، وإن اعتبر البعض أن هذا الافتراض خيال في خيال، وحرية لغوية، وتعالم تنطعي ليس إلا.

الأرض تدور حول الشمس، بهذه، " البديهة " الفيزيائية التي أيدها وأبدها البرهان العلمي، تغير وجه الكون. وإذْ هي تدور، فإن الكرة = الشكل الموجز المختزل الدقيق لكروية الأرض، تدور بدورها، لكنها تدور بين الأقدام، وفي وسعها أن تدير الرؤوس، والكلام، وترفع من منسوب الهتافات والصراخ، والزعيق إلى أعلى، وصولا إلى العراك الدامي، والهجمات الرعناء من قبل جحفل بشري مهتاج على جحفل بشري آخر مهتاج.

صانعة أمجاد فردية وقومية، وصائغة انتصارات ومصائر، وهادمة طموحات وتطلعات وانتظارات في الآن نفسه. هي لعبة فيها جدل وتركيب، لغط وتركيز، واندفاع وانكماش. متعتها قائمة، محسوسة، ومنظورة. تدفع رؤيتها وعشقها، والجنون بها، بالدم إلى سخونة لا عهد له بها، وتُنْزِلُ القلوب والأفئدة إلى مهاوي الهبوط الذي يشارف بصاحبه على الموت حيث اشتداد الخفق، واحتداد الحمى، واجتفاف الريق والماء في العروق والشرايين. لكنها ثقافة العصر بامتياز.

بل هي جنس أدبي ماتع، ينضاف إلى الأجناس الأدبية المعروفة، ما دامت تحض، وتمتع، وتثير النشوة واللذة، وتحت الحث التلقائي المحموم على الوصف وتوشية الكلام، وزخرفة الإنشاء اللغوي الشفوي، مثلما تزخرف الأقدام اللعب يمينا ويسارا، خلفا ووسطا،

هجوما وارتدادا، اكتساحا وتراجعا، كرا وفرا، وتوزيعا وتمهيرا، مكرا واحتيالا، فنية وبديهة، وتهديفا وتوقيعا، وإطلاقا لصراخ تأييدي وتحفيزي يكاد لا يتوقف، وحناجر ترتفع بالأناشيد والتهاليل دونها طبول المعارك والمغازي والحروب !.

وبهذا المعنى، فالكرة ثقافة لا سخافة، وهي توحيد وتشريك، وضم وفتح وكسر أحيانا لجرار الأماني، وقُلَل الآمال العراض. تَأتَّى لها ما لم يَتَأتَّ لغيرها، لأخواتها، وربيباتها، ورديفاتها، اللاتي ظللن يلهثن خلفها، ولا واحدة منهن بقادرة على إبعادها، والحلول محلها. وأعني بذلك : كرة اليد، وكرة السلة، والكرة الطائرة، والكرة المستطيلة، وغيرها من أشكال اللعب الأخرى التي تحاكي كرة القدم دون أن تزيحها عن العرش. هي معبودة الجماهير في كل أنحاء الدنيا، وأطراف المعمورة.

ومن المعلوم أن الكرة وحدت مجتمعات أمريكية لاتينية كانت منقسمة سياسيا واجتماعيا، وأعادت اللحمة بعد أن تحللت أو كادت في الأرجنتين والمكسيك والبرازيل، والشلي، والأوروغواي، وكولومبيا.. الخ.

استخدمها الديكتاتوريون لتلميع صورهم، وتأبيد وجودهم وغطرستهم، وإلهاء الجماهير التواقة للعدل والحرية والخبز والكرامة. في البال – بطبيعة الحال- إيطاليا الفاشية على عهد موسوليني، وألمانيا النازية في عهد أدولف هتلر، والأجهزة العسكرية الدامية في كثير من دول أمريكا اللاتينية.

ومن ثم، صارت الفرق الكروية المهزومة تخاف على حياتها من طيش مجانين الكرة، ومن بطش الحكام والرؤساء.

الكرة مهوى ومأوى، واستطابة، واستساغة، وموضوع خصيب للثرثرة، والأحاديث والرهانات والأوهام التي لا تنتهي، وإسكات للسياسة والمعارضة إلى حين، وإتلاف لجينات التحفز والتوثب، والعراك السياسي مع الأنظمة الباغية، والحكام الطغاة. لكنها إنصات لوجيب القلوب، وخفقان الصدور، واشتعال الدماء، ما يعني أنها إنصات للآني، اللحظي، والاستمراري في حال الانتصار، ورفع الراية والنشيد. إنصات يدوم إذا توج بالاحتفالات والكرنفالات كما هو منتظر من كأس العالم التي تعمل الأقدام الماهرة، المدربة عاليا تقنيا وفنيا وروحيا، ووطنيا، على السير نحوها، نحو الكأس حثيثا، والسعي اتجاهها سعيا دؤوبا، حريصة كل الحرص على حيازة المجد المروم، والنصر المؤزر، والمؤيد بملايين العيون والقلوب التي لا تنقطع –لحظة- عن المتابعة والمشاهدة، وحُمَيّا التأييد والدعم والمساندة ولو من بعيد: من خلف الصدور والحناجر، والأفئدة، والبحار والمحيطات، والشاشات، ومختلف أدوات ووسائل التواصل والاتصال التكنولوجي الهائلة.

بهذا المعنى، تكون الكرة مشهدا ثقافيا رائقا ناجزا، ينجز كل لحظة وحين، تلتقي فيه شعوب بشعوب، وثقافات بثقافات، وإنسان بإنسان، وحضارات بحضارات، بل أكاد أقول: إن الكرة واقع ثقافي جماهيري مشهود عريض وتأصيلي لشعب له حظ وافر من الثقافة والعلم والحضور في التاريخ، والانخراط في مجتمع المعرفة.

بل إنها ديانة جديدة لها عباد ومريدون وأتباع في جهات الكون "الست". إنها أوسع وأعرض من المتنبي وشوقي ومحمود درويش، وفيروز، وأم كلثوم، وأوسع وأكثر انتشارا من المطربة العالمية أديل، وإلتون جون، وبرانسْ، ومايكل جاكسون، ومئات المطربين والمطربات العالميات، ومن أشهر الممثلين والممثلات طُرّاً. لأنها – ببساطة- تحتل عقول وأفئدة، ووجدانات الأمم والشعوب بمختلف الفئات والشرائح والطبقات : يستوي في ذلك العامة بالخاصة، الرعاع بالأنتلجنسيا، بينما الفن بإجمال في تجلياته و تعبيراته المختلفة لا يمس إلا النخب، إلا الذين أوتوا حظا من العلم والمعرفة والثقافة. وهنا يكمن سر اكتساحها، وكونيتها ما دامت تخاطب كل الفهوم والقلوب والعقول، عبر لغتها الخاصة والمخصوصة، لغة الشفاهة والكتابة بالأقدام، والتخطيط البديع، والمراوغات الحاذقة، والتوزيعات الذكية العميقة المحكمة، والحضور الجسدي الرشيق المنحوت، والركض القوي المحسوب والماكر في كل رقعة من الملعب المعشوشب، ومن العيون المبهورة، والأفئدة المشرئبة، والدماء الساخنة التي تنضح بها الوجوه والملامح والحناجر الهاتفة المُبَوّقة.

ولا زلت أذكر ما قاله محمود درويش ذات أمسية شعرية رائقة وحاشدة بفاس، وكانت بطولة إفريقيا ـ فيما أذكر ـ جارية، والمغرب مشاركا فيها. إذ قال بعد أن أبدى دهشته من الحشد الحاضر الهائل: ـ برافو. لو كنت مكانكم، وخُيِّرْتُ بين أن أحضر أمسية شعرية يحييها المتنبي، أو أشاهد مباراة البطولة، لاخترت المباراة، وتركت المتنبي لشعره. !

وما سعي المغرب المتواصل، وطموحه الدائم في احتضان مباريات كأس العام، إلا ترجمة لما قلت سلفا. غير أن ما ينبغي أن نعلمه، ونعمل من أجل أن يكون هو : وجوب تعبئة وحشد المجهود الوطني، أي خلق جبهة شعبية عريضة متماسكة تفيد من العدل والحرية، والتعليم والصحة، والعيش الكريم، وبناء الوطن ماديا ومعنويا، مايعني تقوية هياكله ودواليبه، ومؤسساته، وإحداث وإنشاء بنيات تحتية، وتأهيل الموجود منها، في طول الوطن وعرضه، بعد أن نكون قد رسخنا بناء الإنسان بناء حقيقيا شاملا، قوامة = الاحترام، والتقدير، وإقرار كرامته وحريته، وحقه اللامشروط في ثروة بلاده.

وبعدئذٍ: حيَّ على الكرة، وتنظيم " المونديال ".

حيَّ على المعبودة الوثنية. !

حي على الثقافة المحرضة الحية والمرئية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى