سالم اكويندي - وليمة زرقاء.. قصة قصيرة

تجمعنا حول المائدة لتناول طعام الغداء، كانت السفرة مهيأة من قبل، سلاطة وسمك مقلي، وأمامنا من خلف الزجاج ينتصب البحر مزمجرا، وكأنه ينتفض، الحيتان تستقر أمامنا على الصحون، وبدأ الحديث يدور عن طريقة أكل السمك، والبحر أمامنا ينتفض في علو وهبوط يريد الانقضاض للخروج من طوقه، والحديث يدور لنلتفت وراءنا على وقع كؤوس، صاح كأس ممتلئ: كؤوسكم أوطانكم فلا تبرحوها، وتذكرت طارق الذي أحرق سفن العودة، ربما فعل ذلك، لأنه لم يسمع ما سمعناه في ضجة الكؤوس، وتزداد حدة الصخب، وننشد إليه· الشاشة تحمل تسجيل هدف، الوقت على الشاشة يشير إلى السابعة مساء، ونحن لم نكن لنؤشر إلا على الساعة الواحدة بعد الظهر، ويدور الحديث لتتحرك الأفواه ملتهمة ما يكسو الحيتان من لحم، وتظهر سلاسل الظهر كأسنان مشط يحتضنها صحن لامع الوجه إلا من وريقات الخص وفصوص الحامض: نعصر ونأكل، والعري يزحف ليزداد السمك انسلاخا من ثوبه عريا نمعن فيه، والبحر عاريا يذهب ويجيء، وكؤوسنا أوطاننا لاتجد سفنا تعود بها إلى شفاه تربة الوطن، والمذيع الخليجي في الجهة الأخرى ينهي المباراة ليبدأ مباراة أخرى، وكوول يأتي، ونحن نمعن قرص اللحم بأناملنا، ومنا من لم يلوث أصابعه بزيت السمك المقلي واكتفى بالشوكة والسكين · وها هو العري يفضح الهيكل العظمي، أسنان مشط متراصة في سلاسل السمك الراقد أمامنا على صحون وكأنها مشرحة طبيب شرعي، ولاندري أن الجوع هو الكامن وراء هذا السر، ارتخاء الهيكل العظمي للأسماك يزداد رخاوة، لم نمسس أوراق الخص، وشفاهنا لم تتعب من امتصاص رحيق الأوطان، تقبيل الجبين، الذي دعانا داع ألا نبرحه، وينسحب المذيع الخليجي إلى الخلف، وبدأ الملعب يخلو، اللاعبون مبعثرة أشلاؤهم، أي مباراة هاته قال صاحبي، قلت ربما إنهم لم يحسنوا اختيار فريقهم؟
عادت الشفاه تلعق ما تبقى من تراب على كؤوس الأوطان، وبدأت الأوطان أكثر التماعا وكأن رغوة البحر هي بقايا صابون، لعلها صابون من تازة، وكم من صابون يلزم لإزالة هذه الأدران، أعد استحمام الكؤوس، وتطلعنا إلى البحر وهو ينسحب وكأنه أشبع نهمه بالصراخ والعويل، والمذيع الخليجي انحبس صوته، واتسع فضاء الشاشة أمامنا بما يضفيه عليها انبهار الضوء الحارق، شهب تتساقط وجثث اللاعبين تزداد تمزقا، أي لعب هذا الذي يريدنا المذيع الخليجي أن نشاهد أهدافه، هي فرجة على كل حال، إنها جعلتنا نحيد عن أشغال الانأمل وطقطقات الشوكات والسكاكين وهي تصطدم بصفحة وجه الصحون اللامع، ها قد أصبحت لكل واحد منا جثث أمامه، نمعن في مصمصة العظام، أشلاء اللاعبين تتجمع كرة سوداء وتتدحرج لتسقط في حفرتها ، قال الذي يجلس بجانبي وهو منشغل بإزالة شوكة من بين أسنانه ، كويرات الكولف أصبحت سوداء، انشغلت عليه بالضغط على فص حامض استقطره على مشط هيكل السمكة، السمكة تحذق فيَّ وكأنها تستدر الرحمة، وأنا أنا ولها ماء الحامض لعلها تختفي من أمامي، تكومت الحيتان أمامنا عظاما حتى أصبحت كوة سوداء، قرصناها بأناملنا، وأوغلنا فيها الشوكة والسكين، انتفض ما تبقى من عريها، لعلع الرصاص بضوئه الأزرق من الشاشة، وصفحة البحر الزرقاء، ولون خواء السماء أزرق، الشاشة أصبحت زرقاء، وتساءلت لماذا ينعتونها بالشاشة الفضية؟
الشاشة يغمرها الرصاص، الهدف لم يسجل، المذيع الخليجي يبحث عن هدف يسجله، كؤوسكم أوطانكم فلا تبرحوها، انزلق طارق من الشاشة مترجلا عن ظهر أندلسه، طارق يطارد صراخ المذيع، حملق طارق فينا ببرنوصه المفتوح الصدر، تقدم منه صاحبي صائحا: نحن لم نحرق سفننا، دس طارق يديه في جيبه للاطمئنان على استقرار أندلسه، وردد منسحبا هكذا ستضمنون خط العودة!
التفتنا على وقع سقطة مدوية، كان المذيع سمكة تتعرى أمامنا، حملق الذي يجلس بجانبي فيما تبقى أمامه من سمكته صائحا : ما أجمل عري السمك! تعالى الصياح من ورائنا، فالتفتنا ثانية من حيث بدأ الصياح يتعالى، وتقدم طارق مستكملا انسحابه من الباب الخلفي للمطعم مرددا في خفوت صوته: كؤوسكم أوطانكم فلا تبرحوها·
2005/1/14
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مريم أحمد
عضو فعال
عضو فعال
مريم أحمد

عدد الرسائل : 111
نقاط : 22415
تاريخ التسجيل : 17/03/2007

قصة قصيرة : وليمة زرقاء /سالم اكويندي Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة قصيرة : وليمة زرقاء /سالم اكويندي قصة قصيرة : وليمة زرقاء /سالم اكويندي Emptyالإثنين أبريل 20, 2009 11:51 am
كؤوسكم أوطانكم فلا تبرحوها·
هي صرخة في واد. كم هي عميقة قصة "وليمة زرقاء" للناقد
المسرحي سالم اكويندي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى