عبد الغفار مكاوي - التعبيرية في الشعر..

لنبدأ بالكلام عن «جورج هايم».

إنه من أعمق الشعراء التعبيريين رؤيةً وأشدِّهم يأسًا وكآبة. وهو كذلك من أقلِّهم دعوةً للإنسان الجديد الذي طالما هتفوا باسمه أو انتظروا مَقْدِمَه؛ فالموت يحوم بأجنحته السود فوق أشعاره، والموت يلفها في ظلماته الكثيفة. لقد صوَّر هول المدينة الكبيرة، وتنبأ بفظائع حربَين عالميتَين. ربما اشتط خياله إلى حد الهذيان والهلوسة، ولكن صوره الشعرية قوية مؤثِّرة، تكاد تلمس اليد والعين بتفاصيلها الحسية وألوانها الحادة وملامحها البارزة. وقد تكون استعاراته في بعض الأحيان مفتعلة وأساطيره ورُؤاه بعيدةً شديدة المبالغة، ولكن فيها مسحة من الجلال لا تقاوَم. وإذا أمكن أن نقارنه بأحد الشعراء، فلا شك في أن حياته العاصفة وسخطه على المدينة والطبقة الوسطى، وقوة شعره ورجولته وعنفه تُقرِّبه من شخصية الشاعر الفرنسي العظيم أرتور رامبو، كما تقرِّبه — في مجالٍ فني آخر — من شخصية فان جوخ الذي كان يحبه ويُعجَب به. وإنتاجه قليل في مجموعه، فهناك إلى جانب أشعاره مذكراته اليومية الغنية بصدق العاطفة ودقة التعبير عن روح جيله اليائس الساخط الملول، وهناك مجموعة قليلة الشأن من الأقاصيص والحكايات التي لا يمكن أن تقارَن بأشعاره من حيث القوة والقدرة على التأثير. وقد يكفي أن نقرأ إحدى قصائده المشهورة — وهي «الحرب» — ونحللها تحليلًا سريعًا بسيطًا. تقول القصيدة:

الحرب(1)
نهض من رقاده، مَنْ طال نومه،
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة.
يقف في الشفق، ضخمًا ومجهولًا،
يسحق القمر في اليد السوداء.
•••

في ضجيج المدن عند المساء تنتشر الأنباء،
صقيع وظلال عتمة غريبة.
ودوامة الأسواق تتجمد كالجليد.
يهبط السكون … يتلفتون، ولا أحد يدري.
•••

في الحارات يُرَبِّت على أكتافهم،
سؤال، ما من جواب، يشحب وجه.
من بعيد ترتعش دقات أجراس نحيلة،
واللحى ترتجف حول ذقونهم المدببة.
•••

على ذرى الجبال أخذ يرقص ويصيح:
أيها المحاربون جميعًا، انهضوا وسيروا!
وعندما يهز رأسه الأسود تدوِّي،
صلصلة السلاسل حول آلاف الجماجم.
•••

كالبرج يطفئ بقدميه اللهب الأخير،
حيثما يهرب النهار، تمتلئ الأنهار بالدماء.
الجثث التي لا تُحصى ممدَّدة فوق الأعشاب،
تغطيها طيور الموت القوية بغلالةٍ بيضاء.
•••

بالليل يطارد النار عبر الحقول،
الكلب الأحمر الذي يطلق الصراخ من فمه الوحشي.
من الظلام يثِب عالم الليالي الأسود،
تضيء البراكين خافتةً بضوء مخيف.
•••

وألوف القبعات العالية هنا وهناك،
تغمر السهول المظلمة المضطربة،
والحشود التي تفر إلى الشوارع من تحته،
يطوح بها في غابات النار المتأججة باللهب.
•••

والنيران الحارقة تلتهم غابة بعد غابة،
الوطاويط الصفراء متشبثة بفروع الأشجار،
يغرز عصاه في الأشجار كالفحَّام،
لكي تتوهج النار ويشتد الضرام.
•••

غاصت مدينة كبيرة في الدخان الأصفر،
ألقت نفسها بهدوءٍ في جوف الهاوية.
لكن فوق الأنقاض المحترقة يقف وقفة العملاق،
ذلك الذي يهز شعلته في السموات الموحشة ثلاث مرات.
•••

فوق ظلال السحب التي تمزقها العاصفة،
في مجاهل الظلمة الميتة الباردة،
حتى جفف الليل المترامي الأطراف بالحريق،
وصب القطران والنار على عمورة.(2)

القصيدة تتألف كما ترى من عشر مقطوعات، صِيغت أبياتها الأصلية من ست تفعيلات تتميز بالبطء والثقل والجلال، ويقترب الإيقاع في معظمها من إيقاع الموسيقى الجنائزية. ومن الصعب أن نخوض هنا في تحليل شكلها الفني أو خصائصها الجمالية؛ لأن المجال لا يحتمل مثل هذا التحليل؛ ولذلك سنَقنع بلمحات سريعة نخرج بها من التذوق البسيط، وأول ما نلمحه منها هو هذه اللغة الخشنة العنيفة المباشرة التي تتفق كلماتها وإيقاعها وصورها الخشنة العنيفة أيضًا مع الموضوع الوحيد الذي تكثفه وتضخمه وتبالغ في تأكيد قسوته وبشاعته، وهو موضوع الحرب التي شغلت التعبيريين ونالت أكبر نصيب من ثورتهم وصراخهم واحتجاجهم.

وقد تلمح منها أيضًا أنها بعيدة كل البُعد عن القصيدة الغنائية التقليدية التي نعرفها من الأغنيات الشعبية أو شعر الرومانتيكيين أو قصائد جوته التي تفيض بصدق العاطفة وعمق الإحساس ورقَّته؛ فهي تتخلى عن العذوبة الغنائية واللغة التي تفرضها التجربة الذاتية، وتزهد في الشكل المتزن والجمال المنسجم الذي يؤلِّف بين العالم والذات في وحدة التجربة الباطنة. بل إنها لتمثل في الحقيقة مرحلة جديدة في الشعر تختلف كل الاختلاف عن شعر التجربة والعاطفة، وتنبع من عقلية تحررت من العالم الشعوري والإنساني الذي انبثق منه ذلك الشعر، حتى ليمكن القول بأنها تعانده وتقاومه وتثور عليه. إنها لا تبحث عن الجمال والانسجام في الشكل أو اللغة، بل تقصد مباشرةً إلى التعبير القوي العنيف بالكلمات والصور القوية العنيفة.

وهي كلمات وصور متقطعة منعزلة عن بعضها البعض يكوِّمها الشاعر طبقةً فوق طبقة، ويشيد منها هرمًا فظيعًا تنطق كل أحجاره بالدمار والموت، أو نشيدًا يتغنى بانتصار العدم ويتصاعد نغمه الكئيب شيئًا فشيئًا من فم شيطان مخيف شرير.

إنها تمزق القناع عن الرعب الكوني ووحدة الذات البائسة في هذا الوجود الذي يتربص للإنسان بالخطر والفناء. لا مجال فيها للتجانس بين الذات والعالم، ولا مكان للعاطفة ولغتها العذبة الحنون، ولا موضع للتفاؤل بالتقدم والمستقبل السعيد. ويكفي أن شيطان الحرب أو إلهها الخرافي المجهول يحرم الناس من النور والعزاء، ويسحق القمر الذي طالما تعلقت به عواطفهم وتغنت به أشعارهم، ويُلقي مدنهم الكبيرة — مدن الفرد الوحيد والقطيع الذي لا وجه له — في ظلام الهاوية وبردها ووحشتها!

إن أكوام الصور البشعة التي يكدِّسها الشاعر في هذه القصيدة تعبِّر عن شيءٍ واحد هو واقع الخراب والكارثة والموت؛ واقع الحرب الذي تنطق به الكلمات والاستعارات وبناء العبارات وإيقاع الأوزان. ولكنها ليست حربًا معيَّنة في تاريخ معيَّن، ولا هي من نوع الحروب التي يكتب عنها الشعراء بدافع الحماس الوطني أو الاحتجاج على قسوتها أو الرغبة في تطهير البشرية منها، أو التي يسجلون فيها تجربتهم الشخصية ويصورون ما رأوه فيها من مآسٍ وأحزان، والشاعر لا يقصر رؤيته للحرب على دائرة التاريخ والبشرية، بل يجعل منها ظاهرة تتجاوز شخصية الإنسان وهمومه ومصيره، ظاهرة كونية إن شئت، تلتهم الوجود والطبيعة بكل ما يتفجر فيها من عناصر الدمار والخراب. هي الحرب في ذاتها، تحررت من كل زمان ومكان، وابتعدت عن كل هدف أو معنًى أو شعور. أما الذي يدبرها ويدير دفتها فهو شيطان خرافي مخيف، يرتفع فوق العالم والتاريخ كأنه برج مشتعل بالنيران، وتتدفق الكوارث من فمه الأسود كما تتدفق الحمم من فوهة بركان.

وليس من قبيل الصدفة أن يختار «هايم» المدينة ليجعلها ميدانًا لهذه الرؤية أو هذا الكابوس، فالمدينة هي رمز الضخامة والفساد والمادية والسأم والضيق. وكراهة المدينة كالنبات المريض الذي يمد جذوره في أعماقه وأعماق جيله الوحيد البائس من الشعراء والكُتَّاب والفنانين التعبيريين، بل لعله يمتد إلى أبعد من ذلك في الشعر الأوروبي منذ عهد بولدير ورامبو؛ ولذلك تبدو القصيدة كلها أشبه بالرؤية أو النبوءة أو النذير الذي أكدته حربان عالميتان وما زالت تؤكده الأخطار المحدقة بالبشرية. صحيح أن هذه التنبؤات عن أزمة الحضارة الغربية وانهيارها كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ولا تزال من أحب الموضوعات إلى قلوب الكُتَّاب والقراء في الغرب والشرق. ولقد بلغت ذروة الإحساس بها في كتابات نيتشه ورؤى دستويفسكي وثورة الشعر الفرنسي منذ عهد بودلير … إلخ، ولكنها لم تكن مسألة حضارية أو فلسفية فحسب، بل كانت لها — كما قلت — جذورها العميقة في تجربة الشاعر وشخصيته وفي قدر جيله المعذب بأكمله، وإحساسه بأنه قد أصبح يعيش على شفا الهاوية. ولقد سقط عدد كبير من شعراء هذا الجيل ضحايا الحرب العالمية الأولى،٣ وفضَّل بعضهم أن يغادر الحياة منتحرًا، واعتزل بعضهم وعاش بقية العمر في صمت. ولكن هذا الإحساس بوحدتهم ومأساة وجودهم العاري من كل معنًى أو هدف بلغ في بعض الأحيان حدَّ الاستمتاع بالكآبة وتعذيب النفس والفرار إلى نشوة الرؤى المخيفة، ومنها هذه الرؤية التي تصوِّرها «الحرب».

......................
(1) المقصود هو إله الحرب. ويلاحَظ أن كلمة الحرب نفسها من أسماء المذكر في لغة الأصل.
(2) سدوم وعمورة، مدينتان نزل عليهما غضب الله لفساد أهلهما وفجورهم. انظر العهد القديم، سِفْر التكوين، ١٩.

المصدر: كتاب "التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى